«العنف المقدس».. خطر داهم

00:02 صباحا
قراءة 4 دقائق

د. يوسف الحسن

لِمَ يبدو موضوع «احترام الاختلاف»، بأبعاده المختلفة، صعب المنال على محك الممارسة العملية، حتى في المجتمعات الغربية، والتي حققت ازدهاراً ونجاحاً متميزاً في نموذجها التنموي، ونظمها التربوية والتعليمية والقانونية وفي تدبير العيش المشترك لمواطنيها، خلال العقود الثمانية الماضية على الأقل؟

ما الذي جرى حتى تقوم قوى يمينية متطرفة تحولت من مستوى حركات احتجاج مجتمعية إلى مستوى أحزاب مسكت بالسلطة في أكثر من بلد، بمناهضة الديمقراطية، وشرعنة التمييز وترويج الكراهية والاحتراب والصراع بين أهل الثقافات والأديان، وممارسة الازدراء والاستخفاف بالعقائد المغايرة، وتحقير الشعوب، والمعتقدات المستقرة في وجدان الناس، وإلى درجة سفيهة تمثلت بحرق كتاب سماوي لأكثر من مليار ونصف المليار من سكان العالم؟

إنها مجتمعات معروفة برصيدها الغني من مفاهيم قبول الآخر المختلف، والتعايش، وقد خَبِرتُ عدداً منها، كالدنمارك والسويد وفرنسا وبريطانيا والنمسا وغيرها، من خلال ندوات ومؤتمرات حوارية، شارك فيها ممثلو كنائس وعلماء لاهوت، وشخصيات مؤثرة ومعنية بالحوار بين الثقافات وأهل الأديان، طوال العقود الثلاثة الماضية. وأشهد أن الكثير من هذه الحوارات كان الطرف المسيحي الأوروبي هو المبادر بالدعوة لها منذ الثمانينات، حتى تطور الحوار إلى قناعة مشتركة بين الطرفين، لمواجهة ضغوط العصر المتزايدة، ولإزالة سوء الفهم بين أتباع الأديان، وتعزيز تعارفهم وصولاً إلى تعاونهم على البر والتقوى، ومواجهة أخطار ماثلة تهدد البشرية.

ومن بين هذه المؤتمرات، والتي شاركت فيها، وتعلمت الكثير من مناقشاتها، «المؤتمر العالمي للحوار بين أتباع الديانات» الذي انعقد في مدريد في يوليو 2008 بناء على دعوة ومبادرة من المغفور له الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، وبحضوره وملك إسبانيا، ومبادرة «تحالف الحضارات» التي أطلقها رئيسا حكومتي إسبانيا وتركيا في العام 2005، وشاركت في عدد من دوراتها وآخرها في إسطنبول عام 2009، وكذلك مؤتمر أثينا المنعقد في أكتوبر 2017، تحت عنوان «التعددية الدينية والثقافية والعيش السلمي في الشرق الأوسط»، فضلاً عن ندوات عدة وحوارات نظمها «مجلس الكنائس العالمي» و«مجلس كنائس الدنمارك»، و«الفريق العربي للحوار الإسلامي - المسيحي»، الذي شاركت في تأسيسه مع عدد من المفكرين والعلماء في العام 1995 في بيروت.

إن التعددية في جوهرها تعني التسليم بالاختلاف، وهو حق إنساني أصيل، الاختلاف والتنوع في الخَلْق والجنس والانتماء والعقائد.. إلخ.

كما يعني أيضاً، الالتزام تجاه المخالفين في العقيدة، على سبيل المثال، وبالدفاع عن حريتهم في إقامة شعائرهم وحماية أماكن عبادتهم، واحترام تدينهم، في عالم اليوم، الذي تتمازج فيه الثقافات والأديان والأعراق واللغات وأنماط العيش، إن على أرض الواقع، أو في فضاءات التواصل الاجتماعي، فإن المجتمعات الإنسانية، أحوج ما تكون إلى تعزيز التعارف والتفاعل والعلاقات والتعاضد، والتعاون، وكبح نزعات الكراهية والإقصاء والعنف والعنصرية، والمجاهرة بالإساءة إلى المقدس.

لا تكفي الدعوات، لحرية العبادة، واحترام معتقدات الآخر، وإنما يلزم الأمر التفعيل العملي لمبادئ التعددية والتسامح، بوصفها مفاهيم مدنية قانونية.

إن مرض «الإسلاموفوبيا» بحاجة إلى معالجة ثقافية غربية جادة وموضوعية، تعالج التمييز والتعصب الممقوت، والذي يغري السفهاء، من ساسة وإعلاميين وكتّاب، بالإحساس بالاستعلاء والغطرسة والاستهزاء وحرية الإساءة.

إن المجاهرة بالإساءة إلى المقدس، وجعله مستباحاً، أو باباً من أبواب حرية التعبير، تؤجج مشاعر الكراهية، وتقوّض أمن المجتمعات وتنتهك الحق في حرية الدين والمعتقد، كحق أساسي من حقوق الإنسان، وتُعطلّ التواصل بين الثقافات وتبني حدوداً دموية بين الناس وبين ثقافات ومعتقدات معتبرة، في أزمنة تشهد تغيرات ديموغرافية وهجرات سكانية هائلة؛ حيث تبدل الوضع الديموغرافي لأتباع الديانات والثقافات في العقود الأخيرة. على سبيل المثال: فإن النصرانية اليوم، لم تعد هي ديانة الرجل الأبيض في الشمال الغني وحده، وإنما هي في أغلبيتها اليوم، هي ديانة فقراء وملونين في أمريكا اللاتينية وآسيا وإفريقيا؛ حيث يعيش نحو ثلثي عدد أتباع النصرانية.

وفي الوقت نفسه، فإن نحو ثلث عدد المسلمين في العالم يعيش اليوم في مجتمعات دول غير مسلمة، وبين أتباع أديان ومعتقدات وثقافات متنوعة، في الهند ودول آسيوية وإفريقية وأوروبية، وفي كندا وأستراليا والأمريكيتين، وبالتالي فإن السلم المجتمعي واحترام التعددية هو لمصلحة الجميع.

إن تكرار أحداث الإساءة والتحقير للمعتقدات المستقرة في وجدان الناس يزيد حالات التوتر الإنساني، ويحفز ثقافة الشكوك والخوف، ويدفع إلى الانزلاق نحو الافتراق في المجتمع الواحد، وها هو العالم يشهد كيف صار (حجاب) عدة مئات من النساء، العنوان الأبرز للشعبويات المتطرفة، في حملات المنافسات الرئاسية والبرلمانية في بعض الدول الأوروبية؛ حيث تراجعت قضايا اقتصادية مهمة لصالح معركة (الحجاب)، وهو عنوان عنصري يزيد من فرص الاحتقان، ويحرض على الكراهية والعنف. إن الإدانات اللفظية الباردة والمكتوبة بلغة «المبني للمجهول» لا تساعد على مواجهة التطرف اليميني العنصري، ومعالجة مشاعر العنصرية والتعصب والكراهية، والتي تُحوِّل الاختلاف إلى نزاع، وإذا نشب النزاع يتحول إلى عنف متبادل، ومن المؤكد أن تكرار ممارسات التيارات اليمينية العنيفة والعنصرية، ستضع النخب السياسية الأوروبية والدولية - والدينية والمدنية، على كرسي المساءلة.

إن الشجب الانتقائي، عند تطبيق معايير حقوق الإنسان، لا يؤدي إلا إلى إدامة النزاعات، وبخاصة التهجم على أماكن العبادة وانتهاك حرمتها، ومثاله: ما يجري في مدينة القدس المحتلة، من اعتداءات وإساءات وعنصرية على المسجد الأقصى والمصلين فيه، يُمارس من قبل مستوطنين غلاة في تطرفهم وعنفهم وخرافاتهم، وبدعم ورعاية من قوة الاحتلال السياسية والعسكرية وبطشها، وهي ممارسات متصاعدة، تنذر بمخاطر جمَّة.

يتساءل المرء، وهو يراقب هذا التصعيد للتطرف والعنف وانتهاك حقوق الإنسان والمنتظم في تيارات سياسية ودينية وثقافية، هنا وهناك، يتساءل: لماذا تتوقف «حرية التعبير» أمام «الهولوكوست»، ولا تتوقف أمام إساءات وانتهاكات لحقوق العبادة والمقدسات والرموز الدينية، حدثت وتحدث في السويد وفرنسا والقدس وغيرها؟

إن ردود الأفعال الدولية، وبخاصة في أوروبا الغربية، ما زالت محدودة ومواربة، ولا تخدم مبادئ التسامح والمسالمة، خاصة حينما تغيب في هذه الردود، النزاهة والإنصاف، ويحضر الشجب الانتقائي والبارد في آن.

.........

لنوقف هذا الزمن الذي يتوحش فيه «العنف المقدس» ويستحضر أساطير آخر الزمان..

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"