تأملات «صيفية» - 2

00:02 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. يوسف الحسن

في الصيف القادم، بعد أسابيع، نحتاج إلى وقفة أخرى للتأمل، ونحن نبحث عن شيء من السكينة مع النفس، وسفر إلى الخارج (وفي الأسفار خمس فوائد وعلى رأسها «تفرُّجُ هَمٍّ») بعد «صيفيتين» قاسيتين، بفعل الجائحة التي سنظل نتذكرها ولا ننساها.

إنها وقفة تأمل، أتمنى على الأجيال الشابة ممارستها، وأن يستديروا بأعناقهم وفكرهم نحو الماضي البعيد، لقراءة مشهد أجدادهم، وهم يكابدون ويشقون، ويعانون الحرمان الشديد، في البوادي والوديان والجبال والبحور، وفي المنافي ومدن الاغتراب، وهي أماكن «كالحة مالحة» طلباً للرزق في تلك الأزمنة، في النصف الأول من القرن العشرين. 

ووقفة تأمل أخرى لمشهد أجدادهم، مع اشتداد الحر وهجيره، وصبرهم وقوة تحملهم، وهم محاصرون بهذا الحر الشديد، وندرة الماء وقسوة الحياة ومكابدة العيش.

هل خطر ببال الأحفاد، وهم يشدُّون الرحال لرحلات الصيف في بلاد بعيدة، كيف كانت أحوال آبائهم وأجدادهم؟ وكيف كانوا ينتقلون من مكان إلى آخر بحثاً عن «مقيظ»، وعن سعف وخوص لبناء عريش، وماء وكلأ، ونسمة جافة خالية من الرطوبة، وينعمون بقيم «الفزعة» والتراحم ويطالعون النجوم والظل والريح، وينتظرون «نجم سهيل» يبشرهم بقرب انتهاء فصل الصيف والخلاص من قيظ لاذع مالح ومن صيف لا يقل عنه حرارة وشدة.

لا نحتاج إلى تفصيل أكثر لمشاهد الصيف الحار التي تختزنها الذاكرة الملتاعة في تلك الأزمنة، وقد يسألني أحدهم: لماذا نُذكِّر الأبناء والأحفاد بضرورة استحضار مشهد الصيف عند الأجداد؟

نُذكِّرهم، لأن بعضهم قد نسي وتغرِّب عن ماضيه، وظن أن «رفاه» اليوم هو رفاه مؤبَّد، وإنه له ولجيله وحده، وليس للأجيال القادمة أيضاً، وقد لا يعنيه، إن تعرض للهدر أو قلة التدبير أو حتى للانتهاك.

هذه دعوة للتأمل والتذكير، لا للتوصيف، أو قراءة المشهد من السطح، وهي القراءة التي تصلح لأرفف الأرشيف، ومتاحف التراث والمخطوطات، لكنها غير كافية لجعل معاناة الماضي حاضرة في عقل ومخيال الأبناء والأحفاد، ولتكون لها تجلياتها في أنماط سلوكهم، وأنساق قيمهم، ومزاجهم الثقافي في التعامل مع الآخرين.

لقد نحت الآباء الكبار والأجداد في صخر المعاناة من أجل هذا الحاضر، وتجرعوا مرارات الشقاء وقسوة الطبيعة، وشظف العيش.

هل يوقظ هذا الماضي الأجيال والأبناء وهم يطلقون سيقانهم للسفر، في صيف من مواسم (الرفاه)، وفي زمن يثرثر التلفاز ووسائل التواصل، على مدار الساعة، عن فضائل «التصييف»، وحسنات «صيفنا أحلى»؟

يذكرنا الصديق علي خليفة الكواري في سيرته وذكرياته التي سجلها في كتابه «العوسج»، بالفترة العصيبة من الفقر قبل بدء عصر النفط، وكيف تحطمت سفن الغوص في سائر أنحاء الخليج العربي، في نهاية الربع الأول من القرن العشرين، إثر إعصار هائل مدمر، وتبعه دخول اللؤلؤ الصناعي الياباني، إلى أسواق اللؤلؤ الطبيعي، كما يحدثنا عن قريته «الغارية» القطرية الواقعة على ساحل البحر، والتي عاش فيها فترة طفولته وحيث لا يوجد فيها بئر ماء عذب، ولم تنبت فيها نخلة أو سدرة، ولم تجلب المياه إليها (بالصهاريج) إلاّ في أوائل الخمسينات، كما يذكر أنه ترك المدرسة وعمره نحو 13 عاماً، ليعمل مؤقتاً في شركة نفط قطر، والتي جذبت أيضاً أفراداً من ساحل الإمارات للعمل فيها، بدءاً من منتصف الخمسينات.

نودِّع زمناً، ونستقبل زمناً، لا نمل من سفر الزمان، رغم تغير الأمكنة وتغير شروطها وأحوالها، وحالات ملتبسة من الشجن والحنين، وتبقى الذكريات.

ورحم الله الأجداد وهم «يُقيّظون ويُصيِّفون» في عز القيظ في بلادهم، وهم هانئون.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"