عادي
إعادة رسم خرائط حدودية.. والنظام الدولي على المحك

أوروبا على أعتاب عصر جيوسياسي جديد

01:56 صباحا
قراءة 7 دقائق
صورة بالاقمار الصناعية لمنطقة مصنع "آزوفستال" للفولاذ في ماريوبول الاوكرانية(أ.ب)

أوروبا الحديثة هي صنيعة مزيج معقّد من الورود والأعلام والألوان والرموز الدينية والفلسفات والأيديولوجيات والشوفينيات القومية والطموحات الإمبراطورية. وكانت هذه العناوين الرمزية هي المؤدي إلى قرون من الصراعات والنزاعات والحروب الدامية التي أعادت أكثر من مرة، رسم الخرائط الجيوسياسية في القارة العجوز، وفي العالم على السواء.

فهل ستعيد العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا بشرق أوروبا رسم الخريطة الجغرافية والسياسية لأوروبا مرة أخرى، بعد أكثر من ثلاثة عقود على أكبر زلزال جيوسياسي في القارة بعد الحرب العالمية الثانية؟ أم ستتطور العملية العسكرية إلى حرب شاملة لن يكون تأثيرها على أوروبا فقط؛ بل على العالم بأسره؟

المعطى الأول

رغم أن روسيا فقدت الكثير من حلفائها ونفوذها منذ تفكك الاتحاد السوفييتي السابق، إلا أنها مازالت القوة النووية العظمى القادرة على إحكام السيطرة على العديد من جيرانها في أوروبا، وجعل آخرين في حالة حياد صعب.

وبعد سنوات من التيه في تسعينات القرن الماضي، استطاع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أن يعيد لمّ شمل ما تفرّق من الاتحاد السوفييتي، ولم تخرج من الطوق سوى بولندا ودول البلطيق الثلاث: ليتوانيا وإستونيا ولاتفيا، التي ارتمت في أحضان الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي كراهية في روسيا، وهو كره يعود إلى قرون، حيث كانت هذه الدول جزءاً من الإمبراطورية القيصرية، وابتعدت واقتربت من موسكو بعوامل الضم والاستقلال والاحتلال وفرض الأمر الواقع. فحتى وإن لم تتمكن روسيا من إحياء حلف وارسو السابق، فقد وسّعت تحالفها الاقتصادي والسياسي والأمني ليشمل ما بقي من الجمهوريات الاشتراكية السابقة المستقلة في «كومنولث جديد» على الصعيد الاقتصادي، ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي، ومنظمة شنغهاي للتعاون على المستوى الأمني لتضم كذلك، لاعبين جدداً مثل الصين والهند وإيران ودول أخرى وإنْ بصفة مراقب، إضافة إلى مجموعة بريكس التي تضم إلى جانب روسيا، الصين والهند وجنوب إفريقيا والبرازيل، وهي مجموعة اقتصادية تضم نحو نصف سكان العالم.

عواقب النشوز

النهاية المأساوية لأزمة أوكرانيا التي استغلها الغرب سبباً لإشعال حرب غير مباشرة بين روسيا وحلف «الناتو»، وخلق ذريعة لوضع حد للتطبيع الروسي مع أوروبا، في إطار واقع جديد يقاطع مخاوف الماضي، هي سيناريو متكرر لما حدث قبل 14 عاماً في جورجيا: الجمهورية السوفييتية السابقة،وانتهى الأمر بهزيمة تبليسي وتنظيم استفتاءين لإعلان اوسيتيا الجنوبية وابخازيا جمهوريتين مستقلتين في جورجيا، حظيتا باعتراف روسي. وقد تكرر السيناريو الجورجي في أوكرانيا بعد الثورة القرنفلية التي اعتبرتها روسيا انقلاباً على السلطة الشرعية المنتخبة، وانتهت النزعة القومية المتطرفة بحرب حوض دونباس الغني بالمعادن، وضم روسيا شبه جزيرة القرم، وإعلان إقليمي دوينتسك ولوغانسك جمهوريتين شعبيتين مستقلتين حظيتا أيضاً باعتراف موسكو.

وبررت موسكو تدخّلها في أوكرانيا مرة أخرى في فبراير 2022 بعدة أسباب، أولها الخطة الأوكرانية لشن عملية عسكرية واسعة في مارس 2022 لإعادة إخضاع الإقليمين الانفصاليين، واستعادة شبه جزيرة القرم.

أسس العلاقة

العلاقات بين روسيا الاتحادية وريثة الاتحاد السوفييتي السابق، وحلف شمال الأطلسي تحكمها أسس ومبادئ تم تضمينها ثلاث وثائق أساسية. فقد نص الاتفاق حول توحيد الألمانيتين الغربية والشرقية في 12 سبتمبر/أيلول 1990 بين دول «2+4» (الألمانيتان الغربية والشرقية والاتحاد السوفييتي وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة)، على الالتزام بعدم توسع حلف «الناتو» إلى ما وراء نهر إلبا، ما يعني الامتناع عن عرض عضوية الحلف على بولندا ودول أخرى.

ثانياً: نصت «وثيقة إسطنبول» في نوفمبر/تشرين الثاني 1999 على تحديد العلاقة بين روسيا وحلف «الناتو» في ما عرف ب«ميثاق الأمن الأوروبي»؛ جوهر الوثيقة التي تُرسي المبادئ الناظمة للعلاقة، وسنام الميثاق مبدأ الأمن المتكافئ غير القابل للتجزئة، وينص عملياً على أنه لا يجوز لأي دولة تعزيز أمنها على حسب أمن دول أخرى.

ثالثاً: «إعلان أستانا» في ديسمبر/كانون الأول لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، الذي جدد الالتزام بميثاق الأمن الأوروبي المنصوص عليه في «وثيقة إسطنبول». وأكدت الدول الأعضاء في المنظمة وفق الإعلان، «الاحتفاظ فقط بالقدرات العسكرية المتناسبة مع الاحتياجات الفردية أو الجماعية المشروعة في مجال الأمن، مع مراعاة الالتزامات بموجب القانون الدولي والمصالح الأمنية المشروعة للدول الأخرى».

والمبادئ شيء، والالتزام بها في ما يبدو كان شيئاً آخر. فلم يلتزم حلف الأطلسي بالأسس الناظمة للعلاقة مع روسيا، ففي ثماني موجات ضم الحلف إليه 13 دولة في شرق اوروبا.

يدعي حلف شمال الأطلسي وليد فترة الحرب الباردة، أنه حلف دفاعي نشأ أساساً للوقوف في وجه الاتحاد السوفييتي، لكن بعد تفككه وسقوط الأيديولوجية الشيوعية وموت حلف «وارسو»، ازدادت شهية الولايات المتحدة، حامية أوروبا، لتعظيم نفوذها في العالم كله مع ارتفاع نغمة القطبية الأحادية، لاستخدام الأمم المتحدة محللاً شرعياً لتحركات القطب الذي نصب نفسه شرطياً للعالم، ولاستخدام حلف «الناتو» أداة عسكرية لتنفيذ المهام الأمنية المطلوبة؛ بل طرحت واشنطن أن يكون الحلف قوة تدخّل سريعة لإطفاء الحرائق في العالم.

بمعنى آخر، كانت الولايات المتحدة تغلّف حماية ما تسميه مصالحها بغطاء قانوني أممي وتحت مظلة الحلف الأطلسي، وقد كانت تطبيقات ذلك عديدة من حرب الخليج الثانية، والتدخل في يوغسلافيا السابقة، والتدخل في الصومال وغزو أفغانستان والعراق، والتدخل في ليبيا، وحذر بوتين آنذاك في 2011، من أن التدخل الامريكي بغطاء من «الناتو» في النزاعات خارج الحدود الأمريكية والأوروبية أصبح «نزعة ثابتة عديمة الضمير والمنطق».

الخوف من التطبيع

اقتربت روسيا خلال العقدين الماضيين كثيراً من أوروبا، وتعاظمت مؤسسات العمل المشترك بين الطرفين، فأصبح لروسيا تمثيل دبلوماسي لدى حلف «الناتو» ومنصة للتشاور واللقاءات السنوية، وأصبحت عضواً في منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، وتزايدت الاستثمارات المتبادلة بين الطرفين، وكان الغاز الروسي شرياناً للصداقة والاستثمار والمنفعة المتبادلة. وذروة الاستثمار المتبادل بين أوروبا وروسيا هو خط غاز الشمال (نورد ستريم، 1 و2) ويوفران معاً 110 مليارات متر مكعب من الغاز. والأول عامل لخدمة المستهلكين في ألمانيا، والثاني اكتملت منشآته منذ ديسمبر/كانون الأول 2021، لكنه لم يبدأ التشغيل حتى أوقفته ألمانيا بعد العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا.

الاحتجاج الأمريكي مبرر؛ لأن الولايات المتحدة التي كانت تسوق نفسها طوال عقود كحامية لأوروبا، وتنشر في العديد من دول القارة قواعد عسكرية وصواريخ نووية تكتيكية من أيام الحرب الباردة، ستفقد مبررات فرض نفسها على أوروبا؛ بل إن حلف «الناتو» نفسه يفقد منطقياً، مبررات وجوده حسب ميثاقه كحلف دفاعي في وجه الاتحاد السوفييتي، فلم يعد لحرب الأيديولوجيات من وجود؛ بل تسود أوروبا من الأورال إلى إيبيريا، لغة التفاهم والتعاون الاقتصادي والانفتاح التجاري والتقارب الثقافي.

اقتلاع روسيا أوروبياً

وفرت العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا في فبراير الماضي الفرصة التي كانت تبحث عنها الولايات المتحدة في ظل توترات سابقة أوصلت العلاقات إلى الحضيض. فخلال أقل من أسبوع على العملية العسكرية الروسية نجحت واشنطن في خلط الأوراق الجيوسياسية، لوضع موسكو في موقع «المنبوذ» دولياً، واستيقظ التهديد النووي من سباته، وتجددت المخاوف الأوروبية بالسقوط في حمأة «حرب واسعة». على الرغم من أن روسيا حسب التوصيف القانوني الدولي أعلنت أنها تشن عملية عسكرية خاصة «لا حرباً في أوكرانيا»، فقد اجتهد التحالف الغربي لتحويلها عملياً إلى حرب بمعنى الكلمة، باعتبار أن الخطوة الروسية خرق صارخ لمبادئ النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية.لذلك لم يكن غريباً ولا مفاجئاً الرد الغربي الضخم والسريع، عبر سيل من إجراءات اقتصادية غير مسبوقة بحجمها: عقوبات مالية شملت خصوصاً الأثرياء الروس العاملين في الدول الغربية، وحظر الصادرات الروسية والواردات إلى روسيا، وإغلاق المجالات الجوية في وجه الطائرات الروسية، والطرد من منظمات دولية للتعاون لا صلة لها بالسياسة الدولية، إلى جانب استهداف كل ما هو روسي رياضياً وفنياً وثقافياً.

التصعيد ونذر الحرب العالمية الثالثة

من غير تسرّع يمكن القول إن العالم بات قريباً من حرب عالمية ثالثة في ظل التصعيد الغربي الذي يؤجج للحرب ضد روسيا. فعلى الرغم من أن روسيا وصفت تدخلها في أوكرانيا بأنه عملية عسكرية خاصة، يصر التحالف الغربي بقيادة واشنطن ولندن على اعتبارها حرباً، ويتصرف وفقاً لذلك. ففي الوقت الذي يحكم التصرف الروسي رد الفعل، وأن تظل العملية العسكرية في أضيق نطاق لتحقيق هدفها المعلن: حماية الأوكرانيين الناطقين بالروسية في حوض دونباس ونزع سلاح أوكرانيا وتحييدها، يصر التحالف الغربي على تصعيد القتال وتحويله إلى حرب شاملة اقتصادياً وعسكرياً، وحصار روسيا بالعقوبات ومصادرة أرصدتها لدى الغرب، وعرقلة تجارتها وتزويد الجيش الأوكراني بعتاد حربي ثقيل لمواجهة القوات الروسية. وكشف اجتماع التحالف الثلاثاء، في قاعدة رامشنتاين الأمريكية في ألمانيا، عن الهدف الحقيقي له وهو إنهاك الجيش الروسي واستنزافه وإضعافه، لكن من دون تدخل مباشر لحلف «الناتو»؛ بل من وراء الكواليس بالدعم المالي والسلاح. ويبدو أن الحرب في اتجاهها للتحول والتوسع مع تقديم بريطانيا الذريعة القانونية للجيش الأوكراني لمهاجمة الأراضي الروسية، فيما أعلن الرئيس الأمريكي الاتجاه إلى مصادرة الأرصدة الروسية في الخارج والمجمّدة والتي تصل إلى 360 مليار دولار، وذلك غداة تحذير الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من أن روسيا تمتلك أسلحة لا تتباهى بها، ولكنها ستستخدمها، وسيكون الرد الروسي صاعقاً، كما قال.

أبيض وأسود ورمادي في الأزمة الأوكرانية

أثارت العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا انقساماً سياسياً في العالم. فالولايات المتحدة وحلفاؤها يضغطون لعزل روسيا عالمياً،لكن في المقابل هناك العديد من الدول التي ترتبط بروسيا بعلاقات تاريخية وسياسية وعسكرية واقتصادية،بينما أغلبية الدول لا ناقة لها ولا جمل في الصراع،لكنها توازن مصالحها جيداً فهي لا تؤيد ولا تدين الحلفاء الأوروبيين.

التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة ضد روسيا يضم أربعين دولة هي في الأساس دول حلف الناتو الثلاثين ودول أوروبية غير عضوة في الحلف،إضافة إلى استراليا واليابان وكوريا الجنوبية ونيوزيلندا وسنغافورة.

وهناك دول عضو في الناتو مثل المجر، لم تؤيد حتى الآن تزويد أوكرانيا بعتاد. وهناك دول مثل سويسرا التي ليست عضواً في الاتحاد الأوروبي أو الناتو، قررت الانضمام إلى حملة التنديد بروسيا وتقديم دعم عسكري لأوكرانيا.

3
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"