عادي
الشعر في حضرة خير البرية

«البردة».. القوافي تتعطر بمكارم النبي

23:57 مساء
قراءة 4 دقائق
بردة البوصيري

الشارقة: علاء الدين محمود
هناك عدد من القصائد التي نظمها شعراء عرب تأثراً ب «البردة»؛ وهي تلك القصيدة التي ألقاها كعب بن زهير في حضرة الرسول صلى الله عليهم وسلم، يذكر فيها صفاته ومحاسنه وخلقه الكريم، ونسبة لجمال القصيدة وآيات جمالها وبلاغتها ودقة نظمها وسبكها ورفعة معانيها، كتب العديد من الشعراء على منوالها تيمناً وإعجاباً وتمثلاً.

كان النبي الكريم غاضباً على كعب بن زهير، فأراد الأخير أن ينال عفوه ورضاه، فجاءه مسلماً متخفياً، وألقى على مسامع النبي قصيدة غاية في الجمال، يقول مطلعها:

بانَتْ سُعاد فَقَلْبي اليوْم مَتبولُ

متيم إثْرَها لم يفْدَ مَكْبولُ

إلى أن يقول:

إِنَّ الرَسولَ لَسَيفٌ يُستَضاءُ بِهِ

مُهَنَّدٌ مِن سُيوفِ اللَهِ مَسلولُ

في عُصبَةٍ مِن قُرَيشٍ قالَ قائِلُهُم

بِبَطنِ مَكَّةَ لَمّا أَسَلَموا زولوا

زَالوا فَمازالَ أَنكاسٌ وَلا كُشُفٌ

عِندَ اللِقاءِ وَلا ميلٌ مَعازيلُ.

قصيدة عصماء نالت استحسان النبي الكريم فخلع بردته على كعب بن زهير تعبيراً عن إعجابه بها فسميت قصيدة كعب تلك ب«البردة»، وهي حافلة بذكر محاسن الرسول صلى الله عليه وسلم ونبل أخلاقه وفرادته، فكان أن ذاع صيتها وانتشر صداها وسط العرب والمسلمين في كل مكان، بل وظلوا يرددونها عبر الأزمان.

1
بردة أحمد شوقي

الكواكب الدرية

ولعل من أجمل وأبدع القصائد التي حملت اسم البردة، تلك التي نظمها الإمام شرف الدين محمد بن سعيد البوصيري «608 996 ه» وهو من أشهر شعراء التصوف الذين برعوا في مدح المصطفى، اقترن اسمه بالمدائح النبوية، ولقيت نصوصه شهرة كبيرة بين الناس لكونها تفيض رقة وعذوبة، وعبقرية في انتقاء الألفاظ والمفردات، وشكل البوصيري لنفسه بصمة بل مدرسة خاصة به في مدح النبي، حتى تأثر به كثير من الشعراء في زمانه وما تلاه، فراحوا ينظمون الشعر على الطريقة ذاتها.

اشتهرت قصيدة البوصيري التي أطلق عليها اسم «البردة»، أو «الكواكب الدرية في مدح خير البرية»، ووجدت صدى كبيراً بين المسلمين، ولا تزال تُردد بينهم، فهي تعد من عيون الشعر العربي على الإطلاق، ومن بين أجمل قصائد مدح الرسول. ويقال إن البوصيري قد ابتلاه الله بمرض الفالج، فانقطع في بيته يتقرب إلى الله تعالى في صباحه ومسائه فكتب تلك القصيدة وصار ينشدها طوال يومه، حتى رأى في منامه ذات يوم أنه يقرأها في حضرة النبي، ورأى في الحلم أن الرسول الكريم قد خلع عليه بردته، فاستيقظ من النوم وقد شفاه الله، وهذا هو السبب في أن تشتهر القصيدة باسم البردة، وقد أكسبتها تلك الواقعة بعداً روحياً.

واعتبر النقاد والمؤرخون بردة البوصيري ثاني أجمل نص شعري في مدح النبي بعد بردة كعب؛ بل صار الشعراء يقلدونها وينسجون على منوالها لشدة تأثرهم بها، وقد أبدع البوصيري بالفعل في بناء نصه الشعري، وسار في نظم قصيدته على نهج الأقدمين،

فقد تنقل من الغزل العفيف والتحذير من الهوى، إلى مدح الرسول الكريم وتحدث عن مواقف في سيرته العطرة، ونماذج فريدة من أخلاقه العظيمة، ثم وصف القرآن، وليلة الإسراء والمعراج، والجهاد، وختمها بالتوسل والمناجاة، وهي قصيدة طويلة تقع في 160 بيتاً يقول في مطلعها:أمِنْ تذكّر جيرانٍ بذي سلم

مزجتَ دمعاً جرى من مقلة بدمْ

أم هبت الريحُ من تلقاء كاظمة

وأومضَ البرقُ في الظلماء من إِضَم

إلى أن يقول:

مولاي صل وسلم دائماً أبداً

على حبيبك خير الخلق كلهم.

وذلك البيت الأخير، اعتاد الناس على قراءته في مستهل القصيدة وخاتمتها، بل ويستخدمونه في مناجاتهم وتهجدهم وعبادتهم تقربا إلى الله عز وجل، والنص ينتهي بذكر شمائل النبي وطلب العفو، والقصيدة في عمومها محتشدة بالجمال والأنوار الساطعة، حيث لا توجد في الأدب العربي قصيدة من الشعر كان لها مثل هذا التأثير في الناس في كل البلدان الإسلامية.

ريم على القاع

لا تنتهي مسيرة الدفق الشعري الجميل والعظيم في حضرة النبي الكريم وذكر محاسنه وأخلاقه، بل هي متواصلة يحمل لواءها جيل من بعد آخر من شعراء العرب والمسلمين في مختلف العصور، ومن أكبر الشعراء الذين تأثروا ببردة البوصيري، هو أحمد شوقي، «1868 – 1932»، والذي كتب قصيدة على منوال ذلك الأثر العظيم الذي تركه البوصيري، فجاء نص شوقي مشابها لبردة ذلك المعلم حتى على مستوى استهلال القصيدة وخاتمتها، وقد أعجب بها الناس أيما إعجاب، وتغنت بها أم كلثوم، ويقول مطلعها:

ريم على القاع بين البان والعلم

أحلّ سفك دمي في الأشهر الحرم

كشف الغمة

وهناك أيضاً الشاعر الكبير محمود سامي البارودي «1839 1904»، شاعر السيف والقلم، والذي كتب قصيدة على نهج بردة البوصيري، حملت اسم «كشف الغمة في مدح سيد الأمة»، وتقع في 447 بيتاً، تدور مضامينها حول سيرة النبي الكريم ومدحه، وتتميز بالرشاقة اللفظية وثراء المعاني، ويقول في مطلعها:

يا رائد البرق يمم دارة العلم

واحد الغمام إلى حي بذي سلم

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"