عادي

فرجيليوس..«الإنيادة» روح الحضارة الرومانية

23:35 مساء
قراءة 3 دقائق

القاهرة: «الخليج»

تتوالى العصور في تاريخ كل أمة، كل منها يختلف عن الآخر في مدى أهميته وازدهاره، وفي مدى تأثره بالعصور السابقة وتأثيره في القرون اللاحقة. والتاريخ الروماني، الذي يمتد لفترة تبلغ ستة قرون أو سبعة يحتوي على بضعة عصور ذات أهمية بالغة، لكن أهم تلك العصور هو الذي شهد تقويض أركان الحكم الجمهوري ووضع أساس الحكم الإمبراطوري، ففي ذلك العصر وضعت النظم السياسية والمدنية التي ظل العالم الأوروبي يتبعها لفترة تربو على الألف عام.

في ذلك العصر واجه الإنسان لأول مرة في التاريخ مشكلة الإمبراطورية القائمة على سيادة القانون وكفالة الحريات وتوطيد دعائم السلام، وأوجد لها حلاًّ مؤقتاً. ولكي نفهم فرجيليوس ونتذوق أعماله لا يكفي أن نعرف تمام المعرفة أنه كان فناناً عظيماً فقط، بل من الضروري أيضاً أن نكون على دراية حقيقية بالعلاقة التي قامت بينه وبين عصره، ذلك العصر الذي يمثل في الحقيقة نقطة من نقاط التحول المهمة في تاريخ البشرية، فلم يكن فرجيليوس رائداً لمجموعة من الأدباء البارزين الذين بلغت اللغة اللاتينية على أيديهم ذروة مراحل ازدهارها فحسب، بل كان أيضاً يجمع في أعماق ذاته، بين كل من العناصر الثقافية التي تكونت منها الحضارة اللاتينية.

1

يشير هذا الكتاب (الإنيادة) إلى أن فرجيليوس أعظم من قام بتوضيح أهداف عصره، والتعبير عن مثله العليا في سبيل تحقيق الرقي والسيادة للجنس البشري، كان يتأمل عالم الماضي وعالم المستقبل في آن، وأثناء وقفته بين هذين العالمين، عبر تعبيراً صادقاً عن ماضي أمته وأبناء جنسه، بل شارك في صنع مستقبلهم، فبفضله أصبحت إيطاليا وروما لهما هيبة وجلال.

كان فرجيليوس منذ البداية مبشراً بقدوم الإمبراطورية الرومانية، وهو الذي رسم حدود الخيال للجنس الروماني وللشعوب الخاضعة له أو المتحالفة معه، ووضع أصول الفكر التي التزم بها الشعب الروماني في ما بعد، ولم يكد ينتهي من أداء رسالته حتى كان الوقت قد حان لظهور السيد المسيح، حتى إن شهرة فرجيليوس الواسعة وتأثيره القوي ومجهوداته الرائعة قد جعلت منه شخصية عملاقة حجبت خلفها كثيراً من الشخصيات المعاصرة له، وأظهرت البقية القليلة منها أقزاماً من حوله، حيث ولد قبل مولد المسيح بسبعين عاماً.

تحدّر فرجيليوس من أسرة غير عريقة فكان والده يعمل في خدمة الأثرياء، وأتيحت له الفرصة ليتزوج من ابنة مخدومه، ويقال إن أمه أصيبت بلوثة فأصبحت تمارس السحر، ويبدو أن فرجيليوس تأثر بذلك، حتى إنه استخدم السحر والشعوذة في توطيد العلاقة بينه وبين الإمبراطور أوغسطس.

واصل فرجيليوس دراسته في روما باهتمام، وحاول أثناء ذلك ممارسة الخطابة، لكنه لم يستمر طويلاً، كانت فترة نضج بطيء لعبقريته، وكان مشغولاً بدراسته مهتماً بالأسفار والترحال، واهباً نفسه تماماً للآداب والدراسات الفلسفية والتاريخية، ولم يجرؤ على محاولة الاشتراك في النشاطات المدنية أو الإدارية أو السياسية أو العسكرية، ويرجع ذلك إلى عدة أسباب منها خجله الشديد وسلوكه الريفي، الذي اتصف به طوال حياته، وضعف بنيته وصحته العامة فقد كانت متدهورة على الدوام.

قضى فرجيليوس سنوات عديدة في نظم ملحمته الشهيرة «الإنيادة» وقد كتب إليه الإمبراطور أوغسطس يسأله عما تم في مشروعه الضخم، كان الجميع ينتظر بفارغ الصبر ظهور «الإنيادة» وبعد ثلاثة أعوام قرأ فرجيليوس ثلاثة كتب من «الإنيادة» على الإمبراطور أوغسطس وشقيقته أكتافيا، وفي عام 19 قبل الميلاد انتهى من كتابة ملحمته الضخمة، وأخذ يراجع النص وينقحه ويدخل التعديلات عليه.

وكان قد أصيب في أخريات أيامه بالملاريا وساءت حالته الصحية واشتدت عليه الحمى، وتوفي بعد بضعة أيام في الحادي عشر من سبتمبر عام 19 قبل الميلاد، ولم يكن قد أكمل عامه الحادي والخمسين، وبينما كان على فراش المرض طلب من مرافقيه عدم نشر «الإنيادة» وأمرهم بإحراقها إذا ما حدث له مكروه، لكن أصدقاءه رفضوا ذلك وبعد موته أصدر أوغسطس أوامر مشددة إلى القائمين على نشر أعماله بنشر «الإنيادة» كما تركها مؤلفها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"