في معضلات الإصلاح والتغيير

00:51 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. نسيم الخوري

الفكر والحبر مقيّدان بسلطات ثلاث: الجنس والسياسة والدين، وإذا جمعنا الأحرف الأولى لهذه المصطلحات الثلاثة وجدنا أنفسنا أمام مصطلح الجسد بذرة الحياة والتغيير والتقدّم. تتداخل هذه السلطات عادةً لضبط المجتمعات لا لشلّها عبر الأنظمة والقوانين أو عبر الرقابة الشعبيّة وردود الأفعال العفوية والقاسية المحكومة بالغرائز التي تُربك الناس عبر الردع والإيذاء والاغتيال قبل وصول القاضي قوس العدالة. هكذا تفاقمت معضلة العلاقة الملتبسة بين الفكر والكفر أو بين التفكير والتكفير.

يستدعي المفكّرون، إذن، طرح الأسئلة النقدية أبداً، عندما تتهدّد الأوطان ويتهوّر السلاطين وتُطلّ الحروب بملامحها المدمّرة حتّى نوويّاً. وفي المجال سؤال مناسبة:

ماذا يعني فوز الرئيس إيمانويل ماكرون فتُفتح له أبواب الجمهورية الفرنسية متوهّجة لولاية ثانية؟

 وردني الجواب في نص على «الواتس أب» من المفكّر اللبناني الدكتور طلال يونس المُقيم بباريس منذ نصف قرن، بعدما تابعنا هناك الحملات الانتخابية الرئاسية خلال الشهر المنصرم: «لهذا اليوم حلاوته، وما زاد منها تلك الديمقراطية في موطننا الثاني فرنسا التي أبعدت عنّا نتيجة انتخاباتها الرئاسية شبح أقصى اليمين و(إقصائه)، مع أنّ نسبة الأربعين في المئة التي أُعطيت لمارين لوبان لا تبعث للراحة».

 لنقل برسوب التعصّب في عصر الانفتاح وقبول الآخر ونبذ الكراهية. إنّ خطاب اليمين المشدود والمعدّل دبلوماسياً تجاه العرب والمسلمين قبل فترة الصمت الانتخابي، أسقط لوبان التي سحبت نهائياً فكرة الرئاسة من رأسها بعد محاولات سابقة. لم تنس فرنسا الناخبة بأنها تعكّزت في الحرب الثانية على إفريقيا من شمالها العربي إلى جنوبها وهناك استحالة بإثارة الأجيال التي قامت على أكتافها المعامل والمصانع الفرنسية وكلّها مهرت فرنسا بالعظمة الدولية. أذكّر هنا بمقاربات الكاتب الفرنسي ريجيس دوبريه ناعياً سلطات المفكرين في كتابه المُعنون «السلطات الفكرية في فرنسا «وفيها اندثار للفكر الفرنسي المتزمّت عندما يتسلّق «الكبار» الحفافي الخطرة يتمايلون فوقها بين المتناقضات المحكومة حتماً بالفشل.

 أبحث بالمناسبة، عن علاقات السلطات العربيّة بالمفكرين دعاة الإصلاح والتطوّر، لأراها نصوصاً سريعة الذوبان تموت مكفّنةً بجمالها وقوّتها، إذ تتوخّى التغيير فور نشرها. وأبحث وفي ذهني لبنان الحريّات وأسواق الديمقراطيات المستورَدة الجذّابة المُتحوّلة. يلتهمنا التجاذب والصراع والتفسّخ في المفاهيم كلّ يوم وتتجاوز تشظّيات المفكرين أهل السياسة والحكم والمناصب والحصص والأرض والشعب في مسائل المعتقد والإيمان والأديان. ظواهر متنافرة لواقع مرّ يقابله صمت رسمي وكأننا موطن بلا شعب، وهاكم نموذجان:

1- قضاة لبنان اليوم مضربون ومهدّدون يبحثون عن سلطاتهم في متاهات السلطات الأخرى اللامنتهية والمتنازعة والمحاكم والمحامون في ما لا يُوصف. يتجاوز عدد القضاة في لبنان ال 500 يتوزعون طائفياً متمتّعين ظاهرياً ب«الحصانة» المُستنسخة عن فصل السلطات الثلاث في فرنسا لكن بالشكل لأنّ معظم القضاة لم ترسخ استقلاليتهم عن السلطتين التنفيذية والتشريعية.

2- الجامعة الوطنية في إضراب مفتوح حيث لا عمداء ولا مديرون ولا ميزانيات ولا طبابة ولا صناديق تعاضد، ومتقاعدون يصرخون علناً لمساعدة زملاء لهم خضعوا لعمليات قلب مفتوح، بعدما خرّج أساتذة هذه الجامعة القضاة والمهندسين والأطباء والضباط والنواب والوزراء وكأنهم يُعاقبون أساتذة ومفكّرين من دولتهم برواتبهم التي لا تتجاوز ال200 دولار واستحالة استشفائهم. ويتجاوز طلاب الجامعة الوطنية اللبنانية 82874 طالباً و5467 أستاذاً و2834 موظّفاً، ونحن بحاجة لتوظيف ألف موظف لتسيير 19 كلية ومعهداً في 64 مركزاً في أنحاء لبنان. ماذا حصل؟

استورد أصحاب دويلات لبنان 45 جامعة خاصة ومعهداً، توزّعوها طائفياً وباتت الجامعة تفرّق الأجيال ولا تجمعها. هكذا أُفرغ المكان الوطني بما لا يُسمح لك بالاحتجاج والكتابة ولا حتّى بالتفكير والتأمّل. مدان إن كنت مستقلاً. تجمعات لأحزابٍ طائفية تتجاوز ال42 تتقاتل في النهار وتتحاصص في الليل ومع الخارج. لكلّ حزب منطقته وعقيدته ونشيده وعلمه ولونه وجيشه الجاهز ولباسه العسكري الخاص وأسلحته الظاهرة والمستترة، ولكلّ منتسب شكله وهندامه الخاص بما فيها لحيته، ولكلّ حزبٍ وطائفة مدارسها ومناهجها وأماكن عباداتها ومسابحها، ولها جامعتها أو جامعاتها ومصارفها وإذاعتها وشاشتها وبرامجها، ولها ميزانياتها وحصصها في الحكومات والبرلمانات والإدارات ولها دولة خارجية ومموّلون وإعلاميون وممثلون في الجامعات والروابط والجمعيات. أما العلاقات بين رئيس الحزب وكتّابه ومحازيبه فمحكومة بكونهم موظفين تُفتح لهم المواقع والأبواب تُسعفهم السلطات الأمنية والقضائية لمجابهة أي مواطن أو جهة رافضة أو ناقدة ومعترضة في مساحة منخورة بمغاور الفساد. أستعين عليها بجورج برنارد شو القائل:«يستحيل التقدّم من دون التغيير.. والعاجزون عن تغيير عقولهم عاجزون عن تغيير أي شيء».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"