عادي

النار الباردة

22:24 مساء
قراءة 6 دقائق

يوسف أبولوز

تعددت المصابيح والنور واحد سواءً أكان يشعّ أو ينوس هذا النور من مصباح، أو من قنديل، أو من سراج، أو من فانوس، أو من مشكاة، أو من فَنَرْ، أو كان هذا النور يأتي من كُوّة أو كان معلّقاً على عمود في ساحة أو في رصيف، ففي كل الأحوال يقابل نور المصباح الليل، العتمة، الظلام، الظلال، الكهف، المغارة، الدغل، وغيرها من أمكنة وغيرها من ظلمات أو عتمات، تماماً، مثلما يقابل الخير الشر، ويتحدّاه بقوة أخلاقية طالما حملتها آلاف الأدبيات والفلسفات في العالم، وفي حالة المصباح، أو ظاهرة المصباح ثمة قوّة أيضاً لهذا النور الذهبي الجمالي الشعري.

هذا النور البارد المولود من النار كما لو أنه نار باردة معلّقة في مصباح أو في قنديل، نار صغيرة دائماً تتغذّى من الزيت عبر لسان كتّاني صغير هو الآخر، فتيلة قطنية أو قماشية أو شمعية يرتكز عليها الضوء، فيشعّ، أو ينوس.

المصباح لا يمكن إخفاؤه،. إنه علامة وإشارة، مثلما هو حاجة للإنسان الذي احتاج إلى النار، فاكتشفها، وتعلمّ كيف يشعلها أولاً بقدح حجرين صوّانيين، «باردين»، والنار، أيضاً لا يمكن إخفاؤها.. يقول غوته:

«ما الذي يصعب إخفاؤه؟/ النار ففي النهار يشي بها الدخان، وفي الليل يفضح اللهب ذلك الوحش الجبَّار، كذلك يصعب إخفاء الحب الدفين».

على ضوء مصابيح وقناديل وفوانيس ذهبية وخضراء قرئت ملايين رسائل الحب على ذلك النور الذي يمتص الزيت برقّة وهدوء ويحولّه إلى عسل ناري بارد، ونصف شعوب العالم الفقيرة الريفية تَعلّم أبناؤها القراءة والكتابة تحت أضواء المصابيح، و«تحت المصباح الأخضر» كان يكتب توفيق الحكيم.. يقول في مقدمة كتابه هذا الذي جاء بالعنوان نفسه وصدر عام ١٩٤٢.. «..هكذا أعبر الوجود الأرضي: نهاري في برج عاجيّ، وليلي تحت مصباح أخضر..».. ولعلّ ارتباط اللون الأخضر بالقنديل من هذه الناحية الجمالية هو لحاجة شعرية صرفة، وكان نزار قباني يعتبر الشعر قنديلاً أخضر، غير أن اللون الأخضر يحيل في دلالاته التعبيرية إلى بُعْد ديني: الأوشحة الخضر، العمامات الخضر، والقناديل الخضر أيضاً في دور العبادة.. في المساجد، والكنائس، والكاتدرائيات أحياناً هي فضاءات دينية، وحين يهلّ هلال رمضان تمتلئ شرفات القرويين والريفيين الفلاحيين بشكل خاص بالقناديل المضيئة الوامضة بأعين ضوئية صغيرة، وأحياناً، تتخذ هذه الأضواء شكل هلالات، أو أهلة صغيرة عالقة في هذه المصابيح الاحتفالية.

طقوس

في كتاب «دوارتي باربوزا» مخطوطة منذ ١٥٦٥، وقد أعدّها للنشر صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، بعنوان «رحلة بالغة الأهمية» منشورات القاسمي ٢٠١٧، نقع على وصف لأديرة ومعابد لقوم يُطلق عليهم «البانيان» حيث يلعبون ويرقصون ويغنّون على ضوء الشموع ومصابيح الزيت والأجراس في معابدهم وأضرحتهم تلك: «..وأمامهم تماثيل لآلهة مغطّاة بالزهور، تحيط بها المصابيح الزيتية المشتعلة، ينظر العروسان نحو الآلهة منذ الصباح وحتى المساء دون أكل أو شرب».

لكن المذهل في مخطوطة «دوارتي باربوزا» هو مراسيم القسم والولاء لملك مملكة كاليكوت وحضور المصابيح في ذلك الطقس المراسيمي للدولة.. «..يحمل الملك سيفاً بيده اليسرى، ويضع يده اليمنى على مصباح زيتي، تتم إضاءته بواسطة الفتائل، وبداخله خاتم من الذهب، يقوم الملك بلمسة إصبعه، وهكذا يكون الملك، قد أدّى القسم على المصباح والذهب، بأن يقوم بالدفاع بسيفه لحماية كل شيء، وبعدما يتم هذا، يقوم القادة بنثر حبوب الأرز على رأس الملك، ويقيمون له احتفالاً عظيماً، يقدّسون فيه الشمس، وبعد ذلك يلتفتون إلى تعيين ولي العهد والورثة الآخرين، لكي يؤدّوا القسم أمامهم على المصباح نفسه، ملتزمين بأن يخلصوا الولاء للملك، ومساعدته على إدارة شؤون المملكة».

وهناك طائفة تُسَمّى الباينكار، كما جاء في المخطوطة الكاملة لكتاب دوارتي باربوزا، تتجنّد لخدمة ملك كاليكوت.. «.. يُمْنَحون فانوسين كدفعة أولى من رواتبهم، ويُعتبر ذلك شرفاً رفيعاً..»، وفي المخطوطة نفسها نقرأ عن طائفة أخرى تُسّمى الناير في مملكة مالابار.. «يعبدون الشمس والقمر والمصباح الزيتي والأبقار».

نلاحظ هنا أن المصباح عنصر أساسي في عملية أداء قسم الولاء للملك وولي عهده، وليس مجرّد مصباح ضوء موجود ضمن هذه المراسم، هناك لمسة ضرورية من يد الملك للمصباح. هناك أيضاً خاتم من ذهب، وثمة طقوس لا تُعتبر مكتملة إلاّ بهذا المصباح الملكي المراسيمي، عدا عن اعتباريته الدينية الضمنية بالطبع.

رمزية

مصباح ملك كاليكوت هو مصباح طقسي، «دستوري» إذا شئت القول بلغتنا الحكومية السيادية اليوم، غير أن مصباح الملك هذا، يختلف كلياً عن مصباح الفيلسوف «ديوجين ٤٠٠ قبل الميلاد - ٣٢٣ قبل الميلاد»، فقد كان هذا الفيلسوف اليوناني غريب الأطوار، يحمل قنديلاً، ويتجوّل في الشوارع والساحات في النهار «بحثاً عن الحقيقة»، وبالطبع، فإن مصباحه مصباح رمزي، مجازي إن أمكن القول، وما هذا المصباح النهاري سوى وجه آخر لديوجين الساخر هنا، الساخر من الجهل والشبع والجشع، بل إن مصباحه النهاري هذا هو دعوة لطرح سؤال فلسفي قد يطرحه الإنسان العادي على نفسه:.. وهل الحقيقة تحتاج إلى مصباح إذا كانت موجودة في النهار؟

ذلك هو الفرق بين مصباح الملك، ومصباح الفيلسوف، أو ذلك هو الفرق بين «السلطة الساخرة» لديوجين، وَ «السلطة النقيضة» للاسكندر المقدوني الذي عاش ديوجين في فترة حكمه.

هذا السياق المصباحي بدلالاته، وإشاراته ومحمولاته الواقعية والرمزية يفضي بنا أيضاً إلى استعادة قنديل الكاتب المصري يحيى حقّي ١٩٠٥ - ١٩٩٢، في قصته الواقعية أو الرمزية المبكرة «قنديل أم هاشم» التي عرفها القارئ العربي قبل أكثر من ثمانين عاماً «صدرت في ١٩٤٠» فإذا كان مصباح الملك الهندي الآسيوي طقسياً، بروتوكولياً، محفوفاً بالحرس والمراسيم، فإن مصباح أم هاشم كما رآه يحيى حقي يرمز إلى الجهل، والتخلّف والخرافة، يرمز إلى تأصّل ثقافة شعبية ساذجة في قيعان المجتمع المصري في ثلاثينات وأربعينات القرن العشرين، حين كانت سلطة الدرويش ورجل الدين حتى لو كان مجرّد خادم لضريح أو في مسجد سلطة نافذة، مؤثرة، استحواذية تماماً، حتى على المتعلمين آنذاك.

اعتاد الناس في حيّ السيدة زينب على التبرّك بقنديل أم هاشم المعلّق فوق مقام أو ضريح يتدافع إليه أو حوله فلاّحون بسطاء «..تفوح من ثيابهم رائحة الطين والحلبة واللبن..». يأخذون من زيت القنديل ويقطّرون عيونهم، فيتمكّن بهم اعتقاد راسخ أن زيت قنديل أم هاشم زيت مبارك يشفي مرضى العيون. ومن بين هؤلاء فاطمة ابنة عم إسماعيل الذي يدرس طب العيون في إنجلترا، ويعود إلى القاهرة ليجد فاطمة تعاني مرضاً في عينيها، ويعرف أن هذا الزيت هو السبب، يثور على القنديل وأم هاشم وثقافة الجهل هذه، ولكنه يُعتبر جاحداً كافراً وهو يكسر بركة أم هاشم.. «..يا بني ده ناس كتير بيتباركو بزيت قنديل أم العواجز. جَرَّبوه وربنا شفاهم، عليه إحنا طول عمرنا جاعلين تكالنا على اسم الله وعلى أم هاشم».

حركة طبيب العيون إسماعيل ضد الخرافة والوهم لن تؤدي إلى نتيجة، لن يمارس طب العيون، ولن يعنيه أمر القنديل، وستمشي الحياة.. سيتكرّش ويصبح ثرياً، وتبقى أم هاشم على ما هي عليه من حضور لأثرها وذاكرتها الحية في وسط اجتماعي قناعاته الشعبية أقوى من شهادة الطب التي حصل عليها إسماعيل من جامعة أوروبية.

حنين

من قنديل أم هاشم، الديني، المعتقدي، الثقافي الشعبي إلى «قناديل إشبيلية» للكاتب السوري عبدالسلام العجيلي ١٩١٨ - ٢٠٠٦ وصدرت مجموعته القصصية «قناديل إشبيلية» في العام ١٩٥٦.

قناديل إشبيلية قناديل حنينية، قناديل تنوس فوق مفاتيح العودة إلى الأندلس، أو الحلم المستحيل.. حلم الأندلس، قناديل جمالية، مزركشة، شعرية، وبالتالي، فنحن في قناديل العجيلي ننأى عن المراسيمي، والاحتفالي، والمعتقدي، والديني، هذه قناديل حقيقية في إشبيلية.. «..هذه المدينة المسحورة، مدينة القناديل، المزركشة التي تهمس النور همساً على الزخارف الأندلسية».

تقوم قصة «قناديل إشبيلية» على رجل (الراوي) يلتقي في إشبيلية «بروفسوراً» يدعى آلسيدو يتبين أنه من أصل عربي مغربي من عائلة «بوقلادة» يتحدث بشغف عن مفاتيح العودة إلى ديار أهله في إشبيلية، «..كنّا سادة إشبيلية ذات يوم».

يسرد البروفسور قصته أو حكايته على الراوي، ومن وقت إلى آخر تحضر القناديل المعلّقة في قاعات فارهة، آلسيدو، حامل مفاتيح بيت أجداده في إشبيلية يصف القناديل، وكأنه يصف قطعة من الذهب، أو قطعة من الجنة.. يقول إن أروع ما في تلك القاعات.. هي تلك القناديل المُعلّقة.. «..التي ترسل أشعتها بهدوء فتلتف على تشبيك الحديد وزركشة الرخام كأنها بكل هذا الجمال هائمة، ما بين مكشوفة الجوانب يتحدّر منها الضوء في مجرى مطمئن عريض، وبين ملفّعة بصفائح النحاس المخرّم كأنمال يصدر ضوؤها عن نجوم سماء بعيدة، ساكن بعضها في سكون القاعات وبعضها ينوس في مهب نسمة متسلّلة من نوافذ القاعات بحركة ناعمة، وهي، هذه القناديل أعني، في هذا الهدوء الشامل كأنها حرّاس مدينة نام عنها أهلها، سُحرِوا، فأصبحوا بعض زينة هذه القاعات».

في كتابة كهذه، جمالية، وليست أسطورية، شعائرية، معتقدية يشعّ المصباح أو يتوهج أو ينوس كما هو في حقيقته:.. تلك النار الباردة، الضوء الذي يتغذى على الزيت..

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"