البحث عن الحقيقة

22:30 مساء
قراءة دقيقتين

علاء الدين محمود

لئن كان مصباح علاء الدين هو الأشهر شعبياً، فإن مشهد الفيلسوف اليوناني ديوجين وهو يحمل مصباحه في النهار في شوارع أثينا يظل راسخاً يحضر في كل حين نسبة لارتباطه بحكمة لا يزال ينهل منها الناس عبر العالم، فعندما سئل الفيلسوف الكبير عن سر حمله لذلك السراج في رابعة النهار أجاب بأنه يبحث عن الحقيقة، «لقد تاهت وهـأنذا أبحث عنها»، فكان أن رسم ذلك الرد الدهشة في وجوه الفلاسفة مذ ذلك الوقت، فقد صار ذلك السراج الذي حمله رمزاً لقيمة ومفهوم الحقيقة، وبطبيعة الحال فإن مصباح ديوجين يحمل العديد من الدلالات إلى جانب الحقيقة مثل العدالة والمعرفة وغيرهما من مفاهيم ما زال البشر يحاولون ترسيخها في حياتهم اليومية فتصادفهم الكثير من المصاعب.

لم يكن ديوجين رجلاً مجنوناً مختلاً يسير في طرقات روما في القرن الثالث قبل الميلاد، بلا هدى؛ بل أراد من خلال حمله لذلك المصباح أن يلفت الانتباه بشدة إلى ضرورة أن يركز الفلاسفة اهتمامهم على ما هو واقعي أمامهم بدلاً عن الشطح والبحث في أشياء بعيدة عن اهتمامات البشر اليومية والحياتية، وقد استمد تلك الرؤى من خلال انتمائه للفلسفة الكلبية؛ حيث يعد أبرز مفكريها ومنظريها، وكان من أهم سمات تلك الفلسفة هي العيش وفق الطبيعة، وأن السعادة البشرية تكمن في تحقيق الاكتفاء الذاتي بالاستغناء عن كل ما هو زائد على الحاجة، وكان أتباع المدرسة الفلسفية الكلبية تلك، يرفضون كل ما هو سائد من أعراف وقوانين وعادات وتقاليد، وينشدون الكمال الأخلاقي، ولم يهتموا في سبيل ذلك كثيراً برأي الناس أو نظرتهم لهم؛ لذلك أمضى ديوجين جل حياته داخل برميل كمسكن له، وظل على الدوام يحمل مصباحه ذلك في وضح النهار، ويمشي في شوارع مدعياً أنه يبحث عن الإنسان الفاضل الحكيم، الإنسان الذي لا يوجد بين سكان تلك المدينة.

إن الغاية الأهم بالنسبة لديوجين من وراء المصباح، هي أن يلفت نظر الفلاسفة إلى أن المعرفة لا يتم التوصل إليها عبر الغموض والشطح والتهويم؛ لذلك لم يهتم، بدارسة الميتافيزيقا وما وراء الطبيعة؛ بل يسخر من هؤلاء الذين يقضون جلّ حياتهم في البحث عن حقيقة النجوم والكواكب، ومن الطرائف التي تُحكى عنه أنه إذا سمع أحد الفلاسفة يتكلم عن الأفلاك والنجوم، كان يسأله ساخراً: «متى وصلت من السماء»، ثم يلتفت إلى من هم حوله ويقول لهم: «إن هؤلاء يتكلمون عن الكواكب، وهم لا يعرفون حقيقة ما تحت أقدامهم»؛ بل وكان يسخر مما هو سائد من تقاليد اجتماعية ومعتقدات مثل تقديم القرابين والتطير؛ لذلك كان مختلفاً خرج على تقاليد عصره، وخاطب قومه من خلال ذلك المصباح وما يحمل من رموز ودلالات، ليشتهر مصباحه ويصبح رمزاً للحكمة والمعرفة والبحث عن الحقيقة.

 

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

صحفي وكاتب سوداني، عمل في العديد من الصحف السودانية، وراسل إصدارات عربية، وعمل في قنوات فضائية، وكتب العديد من المقالات في الشأن الثقافي والسياسي، ويعمل الآن محررا في القسم الثقافي في صحيفة الخليج الإماراتية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"