سلام اللغة

00:28 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبدالله السويجي

أعتقد أن الإنسان تخلّص من مشاكل كثيرة مع اختراعه اللغة، خاصة تلك المتعلقة بسوء الفهم. بل إنني أجزم أن معظم مشاكل بني البشر مردّها إلى سوء الفهم، إما نتيجة الجهل بأسرار لغة الآخر، وإما عدم الفهم، وإما التفسير الخاطئ، وإما التحليل على غير ما يوحي به النص الأصلي، وإما الإصرار على فهم الإنسان الخاص لفكرة، أو موضوع معيّن. 

والأشد خطورة من سوء الفهم هو اللجوء إلى محاربة الفكرة غير المفهومة؛ فيلجأ البعض إلى مصادرتها كلّياً، أو تهميشها، أو إنكارها، أو معاداتها، كل ذلك لغوياً، أي سلمياً، ويلجأ آخرون إلى محاربة أصحاب الفكرة مادياً، أي بشن حروب عليهم لإخضاعهم، أو شن حروب لإبادتهم، أو الاستفراد بهم وقتلهم، فإن عجز عن تنفيذ أهدافه دفعة واحدة، يُقدم على القيام بتفجيرات دموية في المساجد، أو المدارس، أو المستشفيات، أو ملاعب كرة القدم، وأي تجمعات أخرى.

    ولا شك في أن هذا البعض يعتمد على أسلوب الإلغاء والشطب، بصفته صاحب الفكرة الصحيحة التي يجب أن يؤمن بها ويصدّقها جميع بني البشر. وهنا تحل محل اللغة بمعناها الأبجدي الحرفي الكلامي السلمي، لغة النار والدمار والخراب والقتل والتهجير. وهذا البعض موجود منذ بدء وعي الإنسان وبحثه عن ملجأ وملاذ آمن، أو بحثه عن إله يعبده، ويستجير به، ويلبّي مطالبه، وتالياً منذ تمسّك الإنسان بإنسان آخر يؤمن بقوته وجبروته وبفكره وعقيدته، فيتحول إلى عبادة الفرد أكثر من الفكرة والمعتقد، وفي كلتا الحالتين، نشبت حروب بدأت منذ آلاف السنين، ولم تتوقف حتى اللحظة.

  لقد ظنّ المفكرون والفلاسفة أن محو الأمية والتعليم ونشر الوعي والثقافة كفيلة بتهذيب الإنسان، وجعله يلجأ إلى الحوار اللغوي، وليس الحوار الناري لإزالة سوء الفهم، أو التفاهم والوصول إلى حل مشترك أو صيغة ترضي الطرفين، لكن خاب ظنّهم، فقد أدّى الوعي لدى شعوب كثيرة بتجذير الإحساس بالتفوق، إلى درجة باتوا يشعرون فيها باختلاف لون دمائهم عن دماء الآخرين، وأنهم أرقى منزلة من الشعوب الأخرى، وبالتالي يحق لهم استعبادهم واستعمارهم واستغلالهم وتوظيفهم لتحقيق مآربهم وخدمتهم. 

وهذا الإحساس بالنقاء والسمو أدى إلى إبادة ملايين البشر، وإلى حروب كونية، ولا يزال هذا الاعتقاد إلى أيامنا هذه، وموجود لدى كثيرين من أتباع الديانات السماوية والدنيوية. وقد تجاوزت أسباب الحروب المعتقدات الدينية لتلامس الأفكار، فتصارع بشكل دموي أصحاب الأفكار والمبادئ اليسارية واليمينية، والشيوعية والليبرالية، والاشتراكية والرأسمالية، والقومية والدينية وغيرها، كأن الإنسان مجبول على رفض الآخر.

 لقد أثبتت الصراعات الدموية وحروب الإبادة والحملات الاستعمارية والهجمات الاستعبادية، فشل لغة القتل في حسم أي صراع، والدلائل موجودة في كتب التاريخ والوثائق والأفلام الوثائقية وغيرها، فالمتصارعون منذ آلاف السنين لا يزالون على قيد الحياة، ويستمرون في الصراع، ويعتقدون أنهم ينفذون أمراً ربانياً، أو قدسياً، أو قيادياً، أو قومياً وتنتظرهم مكافآت لا حصر لها، إن كانت في الآخرة أو في الدنيا، بل إن الكيانات الأممية التي أنشأتها الدول فشلت في لجم نوازع الإنسان ودوافعه بطريقة حيّرت الفلاسفة والمفكرين والمحللين والمفسرين، الذين ساهموا بطريقة، أو بأخرى، في تقسيم العالم، وبشكل متطرف، إلى جماعات متقاتلة.

  على هذه الأرض مُتّسع ليعيش ضعفا عدد السكان الموجودين حالياً على الموارد والخيرات الموجودة، وعلى هذه الأرض مساحة شاسعة لأصحاب الأفكار والمعتقدات، باختلاف مشاربها وتوجّهاته، لتتحرك بسلام وهدوء، من دون اللجوء إلى الإلغاء وشطب الآخر. على هذه الأرض أوكسجين يكفي لتتنفس مليارات المخلوقات، لو لجأ الإنسان إلى لغة الحوار البشرية. وعليه أن يعلم أن اللجوء إلى الحوار السلمي ولو طال آلاف السنين، أفضل من حوار ناري ليوم واحد.

 لقد ميّز الله الإنسان عن الحيوان بعقله وبصيرته وتهذيب غرائزه وجشعه، فلماذا يصر على التمسك ببدائيته؟ هل يحتاج إلى مناهج تعليمية مختلفة عن المناهج المتداولة الآن في العالم؟ أم يحتاج العالم إلى لغة جديدة؟

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"