عادي

وعاء النور

22:28 مساء
قراءة 5 دقائق

محمد إسماعيل زاهر

لم يستطع الشاب الفقير والطيب علاء الدين أن يحقق حلمه ويتزوج من ابنة السلطان إلا عندما عثر على المصباح السحري. ولم يشعر الفيلسوف ديوجين بأنه يستطيع أن يقول أفكاره بمنتهى الحرية لشعب أثينا إلا من خلال مصباح كان يحمله نهاراً. ولم يتمكن البشر من الحياة والعمل ليلاً إلا عبر أشكال مختلفة من المصابيح تطورت حتى وصلت إلى المصباح الكهربائي المعروف حالياً والذي يغمرنا بضيائه في كل مكان.

المصباح في قصة علاء الدين هو حلمي وحلمك، وربما هي أحلام عصية على التحقق في أرض الواقع، وعزاء لكل صاحب وجهة نظر مختلفة يسير على درب ديوجين، ويعيش في عصر التنميط واللون الواحد، ومنحة للبشر جميعاً وهبتهم وقتاً مضاعفاً سرقه البعض منهم خلال النهار، والأهم وهبتهم الأمان.

المصباح وعاء النور، مغامرة ناجحة في أسر الضوء.

يمتلك البشر تاريخاً طويلاً من محاولة الحصول على النور.. هل جربت مرة وأنت صغير الإمساك بخيوط هاربة من ضوء الشمس من خلال فرجات النافذة؟ هل كورت قبضتك متخيلاً بعضاً من هذه الخيوط في يدك الصغيرة المضمومة وعندما لم تجدها شعرت بالحزن؟ كم من المرات أغمضت عينيك في طفولتك لتتخيل ألف شمس ساطعة؟ ماذا عن مشهد الغروب أو شمس الشتاء المراوغة؟ هل تتذكر مشاعرك عندما كانت تنقطع الكهرباء وترسلك والدتك لشراء الكيروسين لاستعمال مصباح الجاز، ما هي أحاسيسك وأنت تركض في شوارع مظلمة؟ إلا من ظلال متوحشة كانت تصيبك بالهلع، لم تكن تهدأ إلا عندما تلمح هذا يشعل ثقاباً وذاك يحمل شمعة وثالث يلوح بكشاف يدوي، ولا يؤنسك في تلك الوحشة إلا أصوات بعض الجيران الذين تعرفهم وتستمد منهم القليل من الأمان، وعندما لم تكن تسمع تلك الأصوات كنت تتخيل العفاريت والمردة سيخطفونك إلى أرض مظلمة ونائية لا قرار لها.

كان يرعبك تضخم الظلال المجهولة للغرباء العابرين والمتحركة على جدران بيوت الجيران بسبب قبس من ضوء هارب من هذا البيت أو ذاك، كنت تظن أن تلك الظلال تتأهب للانقضاض عليك، الآن يجرحك التفكير في ملايين البشر الذين عاشوا في الظلام.. قبل اكتشاف النار.. يؤكد علماء التطور أنهم امتلكوا بصراً أقوى وأحد منا بكثير، لكن ماذا عن الظلام المطبق.. والخوف من الكائنات المتوحشة والمفترسة.. وفزع المجهول.. وماذا عن الملايين الآخرين الذين عاشوا في ظل الضوء المنقوص بعد اختراع الشمع و القناديل والمشاعل التي كانت تنير البيوت والطرقات بشكل متقطع، لكنها لم تنتصر أبداً على الظلام.

ماذا عن عيش البشر لقرون متلاصقين متجاورين في طرقات وأزقة ضيقة طلباً للونس والأمان؟ ماذا عن الأماكن القصية في البيت نفسه والتي لم تكن تجرؤ على ارتيادها ليلاً؟ ماذا عن الخلاء والأماكن المهجورة المسكونة بقطاع الطرق والمجرمين والمطاردين، و كانت بدورها موطناً للحكايات عن الجن والعفاريت والمردة والغيلان، وماذا عن قصص الريف والقتل ليلاً والنداهة وصاحب القدم «المسلوخة» والبشر المسوخ ذوي العين الواحدة، ماذا عن التربص في الظلام والغدر في العتمة وجلوس المتآمرين حول شمعة لإكمال خططهم، حتى اللغة كانت كريمة فاخترعت تلك الجملة الدالة «أمر دبر بليل».. نحن لم نبتعد عن بعضنا بعضاً ونسكن في المدن البعيدة إلا عندما أخذنا النور ووضعناه في المصباح الكهربائي.

أجلس الآن وأكتب وبجواري أكثر من مصباح، وأتذكر مليارات البشر الذين عانوا الظلام في سطور قليلة، أنني بمعنى ما «إنسان متفوق» أو «سوبر مان»، قدرة خارقة أتمتع بها مقارنة بإنسان عاش لمئات الآلاف من السنين، قدرة منحتني إياها تلك المصابيح.

منذ أن قال الرب في سفر التكوين «ليكن نور»، وقال الله في القرآن «مثل نوره كمشكاة فيها مصباح» (النور -35)، والبشر يحاولون أسر النور، و كللت محاولتهم بالنجاح في المصباح الكهربائي. كانت جميع تجاربهم السابقة تدور في أفق السرقة، أو اختلاس النور لوقت محدود، أما المصباح الكهربائي فجعلنا نستخدم النور الاصطناعي حتى خلال النهار؛ بل دفعنا لكي نلعب به.

المصباح الكهربائي ونس، في جميع البيوت هناك مصابيح صغيرة للغاية، خافتة الإضاءة وتوضع ربما في البهو أو صالة الاستقبال أو خارج غرف النوم، مهمتها أن تدفع عنا الفزع عندما نستيقظ ليلاً حتى لا نجد أنفسنا محاطين بالظلام، هي تُذهب عنا الوحشة.

نوع آخر من المصابيح وضعناها في غرف النوم، بعضها بألوان متعددة، هناك من يشعرنا بالهدوء، وهناك مصابيح فاقعة الألوان للأفراح والحفلات، ومصابيح النيون الصاخبة في إعلانات الطرقات والمطاعم والفنادق الكبرى.

المصباح دليل، استنسخناه في السيارات ومن خلال إشارات معينة نسلك الطريق، وفي إشارات المرور نتعلم منه متى نتوقف ومتى نهدئ من سرعتنا ومتى نستأنف السير، نموذج مصغر للحياة.. يعبر عن لهاثنا فيها وراء كل نافع أو تافه.

لصوص

عندما سرقنا النور وخزنّاه في المصباح تحول كل منا إلى برومثيوس، منحنا المصباح قوة لنعيد تفكيرنا في كل ما كان يخيفنا، مع المصابيح لم يعد هناك من فرص لتخيلات البعض حول الظلام أو لهلاوس الآخرين في ما يتعلق بالليل، ولم يعد هناك من سحر لأي حكاية.. وليس من خباء أو خفاء أو لا مرئي.. أنار المصباح الكهربائي حياتنا، لكنه كشف أرواحنا التعسة على حقيقتها والتي كانت تنتظر الفرصة لتتطهر من أساطيرها البائسة.

في حضرة المصباح الكهربائي يخلو الخيال من المذاق والطعم والنكهة، هل لا تزال ألف ليلة وليلة تتميز بالجزالة نفسها؟ لقد نسينا بفعل المصباح أن معظم حكاياتها كانت تدور في جغرافية مظلمة، هل من أم تجمع أولادها الآن في مكان شبه معتم لتقص عليهم حدوتة ليلى والذئب؟.. هل من إمكانية للشعور بالخوف ونحن نتجول مع بطل الكونت دراكيولا في قصر يخلو من كل شيء سوى الظلال؟ هل من لحظة لنتوقف فيها لتأمل الظلال التي تتحرك على وجه دكتور فرانكنشتاين وهو يخترع وحشه؟ هل من رومانسية من دون قليل من العتمة؟ لقد طردنا الظلال، كل الظلال، تلك التي تتعلق بدواخلنا وقلوبنا و هواجسنا، وأصبحنا مرئيين إلى أقصى درجة ولم تعد هناك مسافة بيننا وبين الأشياء نستطيع فيها خداع النفس أو مراوغتها.

بخلاف جميع وسائل الإنارة السابقة، سرق منا المصباح الكهربائي الظل، في حضرة الشمعة كانت هناك فرصة للمراوغة والحضور المتقطع والظلال المكتملة النمو والمنعكسة في أرجاء المكان، مع الشمعة النور يزيد وينقص والظلال تتراقص، مع تذبذب ضوء الشمعة فسحة للتغير والتحول والخروج من حالة والدخول في أخرى، ومع تراقص الظلال هناك خيالات وأوهام وما يعبر عن التململ وما يعبر عن الرغبة في التحرر.

لا ظل مع المصباح الكهربائي، أو هو ظل باهت، أو ظل مستنسخ، ظل مصنوع، ظل لظل. عندما نجلس متواجهين بيننا شمعة أو قنديل أو سراج تظهر ظلالنا قوية على المنضدة أو على الحائط خلفنا، يستطيع أحدنا أن يمثل دور أفلاطون.. ويتخيلنا مقيدين في كهف لا نملك أن ننظر وراءنا لنرى الشمس التي تعكس ظلالنا.. بإمكانه في هذه الحالة أن يتفلسف.. ويستطيع آخر أن يمارس دور ديوجين.. ويمكن لثالث أن تتلبسه روح علاء الدين. عندما نجلس أسفل المصباح الكهربائي يتراجع الظل.. ينكمش.. يخاف من تلك الشمس أو الشموس الصغيرة المعلقة دائماً أعلى رؤوسنا، عندما نستضيء بشمعة بالإمكان إن نمسك ظلالنا، أما أسفل المصباح فالظل في حالة نقصان دائم.

عين ثالثة

منحنا المصباح الكهربائي عيناً ثالثة، مكنتنا من الإبصار في الظلام، لكنه في المقابل سرق ما يميزنا كبشر لهم حكاياتهم وأساطيرهم، مخاوفهم وهلاوسهم، أحلامهم و إحباطاتهم.. سرق منا ظلنا.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"