الصحافة العربية.. محاولة صعود

00:13 صباحا
قراءة 4 دقائق

د. مصطفى الفقي

قالوا، لكل زمان آية، وآية هذا الزمان الصحافة، وقد لا يؤخذ هذا القول كما هو فقد ازدحمت الساحة ولم تعد الصحافة المكتوبة هي المسيطرة في التعبير عن الشأن العام واختراق مراكز القرار، فلقد ظهرت في العقود الأخيرة بدائل مبهرة تدعو إلى الدراسة والتأمل، فقد ظهرت الصحافة الإلكترونية معززة بأدوات وسائل التواصل الاجتماعي على نحوٍ غير مسبوق، وأصبحنا أمام سباق زمني بين الصحافة الورقية والصحافة الإلكترونية حتى توهم الكثيرون أن عصر الصحافة الورقية قد ولىّ وأنها قد تنتهي تماماً، والأمر عندي مختلف عن ذلك، فقد تنال الصحافة الإلكترونية من الورقية ولكنها لا تقضي عليها بالمرة؛ لأن علاقة القارئ بالصحيفة الورقية علاقة ودّ متبادل وألفة حميمة لا تتحقق مع الكتابة الإلكترونية مهما طال أمدها، والدليل على ذلك أن الصحافة الورقية ما زالت صامدة ولها قراؤها وعشاقها، لا من الأجيال القديمة فحسب، وإنما من الأجيال الجديدة أيضاً، مما يبرهن على مكانة الصحافة في ذاكرة الجميع، ويهمني هنا أن أقدم أطروحة لمستقبل الصحافة العربية في عقودها القادمة، والأمر يدور حول النقاط التالية:

* أولاً: إن الصحافة هي مرآة للمناخ الثقافي والبيئة الاجتماعية، فإذا هبط المرء دولة ما فإنه يتعرف إلى ثقافتها من صحافتها، ويدرك درجة التحضر ونوعية التقدم من محتوى الصحيفة وطريقة تبويبها وحجم قرائها، فإذا كانت العلاقة بين الصحافة والثقافة وثيقة للغاية فإنها أيضاً تعكس صورة المستقبل وتسبق أحياناً حركة المجتمع وسياسات النظم لتبشر بفجر جديد وتطور مختلف، بل إن الصحافة تصنع أحياناً مجتمع الأمل أمام الملايين الذين يؤمنون بمصداقية الكلمة المطبوعة وقدسية الصحيفة.

 من هنا فإننا نرى أن مستوى الصحافة في بلدٍ معين هو مؤشر لثقافتها، وهل غاب عن الذاكرة كيف كان القراء العرب ينتظرون مجلة «الرسالة» التي كان ينشرها أحمد حسن الزيات في مصر في النصف الأول من القرن الماضي؟ وكيف كانوا ينتظرون أيضاً مجلة «العربي» القادمة من الكويت ويتلهفون على مطبوعاتها، وقس على ذلك مجلات عديدة بديلة مثل «الهلال» المصرية، بل إن «الأهرام» وهي أقدم الصحف العربية استمراراً وانتشاراً قد احتلت هي الأخرى مكانة كبيرة في ثقافة الأجيال من مختلف الأقطار العربية.

* ثانياً: إن الصحافة على الجانب الآخر شديدة الالتصاق بالسياسة، فقد تكون لحزب معين قيمة كبيرة من مستوى صحيفته، وقد لا تتناسب مكانة الحياة السياسية لحزب آخر في ظل غياب الإعلام الواعي الذي تتصدره صحافة ذكية قادرة على التبشير به والدعاية له؛ لذا يظل هناك ارتباط وثيق بين الصحيفة المقروءة والسياسة التي تعبر عنها أو الحزب الذي تنطق باسمه، وقد شهدنا أحزاباً كثيرة التزمت خطاً سياسياً معيناً، وظلت تدافع عنه وتحافظ عليه. كما أن الصحافة مدرستان، مدرسة محافظة تلتزم بالتحليل الموضوعي، ومدرسة أخرى تحرص على الخبر الجديد مهما كلفها ذلك حتى لو نال من مصداقيتها مع مرور الزمن، وقد تسبق المواقف الصحفية السياسات الرسمية وتدفعها في اتجاهات معينة لم يكن من المستحب الوصول إليها، فالصحافة هي انعكاس أمين لكل ما يدور حولها شريطة أن تلتزم الحياد الموضوعي والخط الوطني، ولو جاء ذلك على حساب المنافسة المحمومة بين بعض الصحف في ظروف معينة.

* ثالثاً: تبشر الصحافة الحديثة باختراقات جديدة لم تكن مطروحة من قبل بنفس الجدية والاهتمام، ويكون أمامنا في هذه الحالة أن نعتبر الصحافة مؤشراً للحداثة ودليلاً على التقدم. ولقد ظلت الصحافة دائماً حلقة وصل بين الأجيال، فالكثيرون منّا ما زالوا يحتفظون بمجموعات كاملة لصحفٍ معينة، بما في ذلك صحافة الطفولة؛ لأننا نرى في كل ذلك تراثاً ذاتياً يعتز به صاحبه ويرى فيه جزءاً من بنائه الثقافي وتكوينه الفكري.

* رابعاً: تبدو القيمة الرمزية للصحافة الورقية من عنصر الديمومة والاستمرار الذي يرقى بالصحيفة إلى درجة الوثيقة التي يلجأ إليها من يريد في أي وقت، وهي ميزة تنفرد بها عن الأساليب الحديثة للصحافة الإلكترونية؛ لأن ثبات الصورة الذهنية يتحوّل إلى مكون دائم في ذاكرة القراء. وأنا شخصياً ما زلت أتذكر بعض عناوين جريدة «الأهرام» خلال الأحداث المهمة في العصور المختلفة، وأرى أنها تمثل حافظة تاريخية عابرة للأجيال في أعمارهم السابقة، ما زلت أتذكر مثلاً عنوان «الأهرام» الذي صاغه الأستاذ هيكل عندما كتب (إني أعترض) وكان ذلك بمناسبة الخلاف الذي بدأ في مباحثات الوحدة الثلاثية في ستينات القرن الماضي، وأتذكر أيضاً عنوان (شاستري يموت في طشقند) مشيراً إلى الوفاة المفاجئة لرئيس وزراء الهند الذي جاء بعد نهرو مباشرة ورحل أثناء مباحثات في الاتحاد السوفييتي السابق، وما أكثر الشعارات والعبارات التي عشنا بها ومعها من خلال عناوين صحفية. فعنوان الصحيفة فنٌ مستقل واختياره يعبّر عن ذوق خاص ورؤية متفردة، ألم نقل دائماً إن لكل زمان آية، وآية هذا الزمان الصحافة؟.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"