العيد.. ثقافة الفرح

00:04 صباحا
قراءة دقيقتين

ذكريات أبناء جيلي مَنْ هم في الستين من أعمارهم الآن حول العيد تكاد تتكثف في عبارة صغيرة: «ذكريات الحلوى»، وما أكثر الحلوى آنذاك، وبخاصة تلك التي يُطلق عليها «التوفة» وهي قطع حلوى صغيرة ملفوفة بورق ملوّن لمّاع، والمحظوظ في العيد مَنْ كان يحصل على أكبر عدد من تلك الحبّات الملفوفة بعناية من الطرفين، وكان الأولاد يأكلون الحلوى ويحتفظون بالورق اللمّاع، ويرتّبونه على شكل أوراق مالية مصفوفة، ومن كان معه ورق أكثر هو صاحب المال الأكثر.
نتذكر حلوى «ناشد»، وأسفاط الراحة أو الحلقوم، والمحظوظ أيضاً من كان يحصل على كرابيج حلب، ولكن تلك الكرابيج الذهبية المشبّعة بالقطر الحلو كانت في الغالب حلوى أبناء المدن، ولم يكن من حلوى محدّدة لأبناء الريف والقرى الزراعية غير عيدان القصب والقُطّين = التين المجفف، والزبيب في حالات نادرة، وكان أجدادنا كرماء كما أنهم طوال القامة. يشترون قفائر التمر المرتّبة في خصف النخل، ولم يكن التمر ينقطع عن البيت، ومعه عدول وأكياس طحين القمح، وخوابي الزيت.
كانت حياة قروية أقل من بسيطة، ولكنها كانت حياة غنّية. كان الصباح القروي صباح الشاي بالقرفة والنعنع والميرمية، وحين كان الشاي الأسود الخشن آنذاك ينقطع من بيت القروي كانت الأمّهات يلجأن إلى طريقة لا تخطر على بال، ولكنها تخطر على بال تلك النسوة المزارعات حين يقمن بتجفيف الشاي الذي استخدم بالأمس تحت الشمس، وحين يجف الشاي تماماً، يُغلى مرة ثانية، وَيُصنع منه شاي جديد، ولكنه أخف احمراراً من الشاي الأول. وفي الحالتين، كان الشاي وما زال أول ما يُقدّم إلى الضيف مع القهوة، وأحياناً قبل القهوة. شاي أسود أو أحمر ثقيل أحياناً، يتناوله أولاد القرويين مع الخبز.. إفطارهم الجميل المُتاح. والشاي أيضاً حلوى الريفيين في العيد، والعرس، وطهور الأولاد.
استعار الروائيون والشعراء والقصّاصون والمسرحيون والرسّامون الخبز والسكر والحلو والشاي والقهوة، من أهل القرى والريف، وكتبوا من هذه الاستعارات أدباً رائعاً أقل ما يوصف أنه أدب إنساني مكتوب بالأقلام والأرواح، وكان ذلك الأدب أدب الحياة، وتحديداً أدب الفرح أو ثقافة الفرح.
اليوم، وبعد مرور سنوات وسنوات على حلوى التوفة، وملبّس بيض الحمام وأسفاط الراحة، وكرابيج حلب وقفائر التمر الأحمر والوردي، لم يبق من تلك الحلوى.. حلواي، وحلواك سوى الأدب المكتوب بالشعر والرواية والمسرح. أما أنت وأنا فقد تقدّم بنا العمر، وأصبحت رؤوسنا بيضاء، لكن الحلو لا يتقدّم في العمر ولا يشيبْ. ستظل دائماً ثقافة الفرح حلوة تماماً في العيد. لأنه عيد أبنائنا وأحفادنا. لأنه عيدنا أيضاً. عيدي وعيدك وعيد كل الناس. عيد للفرح فقط على الرغم من الدموع التي تجري في قرى ومدن وقارّات العالم. على الرغم من اختطاف فكرة الفرح أو سرقة ثقافة الفرح على أيدي قراصنة الحياة الكبار الكبار، أولئك الذين لم يأكلوا يوماً تلك الحلوى التي كانت تذوب في الفم.. كالشاي المجفّف تحت الشمس.
.. كل عام، وذاكرتك بخير، حين يفقد الإنسان ذاكرته، يفقد مستقبله، ولكنه، ويا للعجب.. لا يفقد ماضيه… 
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"