أزمة الثنائية

00:09 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

عندما تفتح أي كتاب يتلامس مع قضايا الفكر العربي ستجد نفسك متورطاً في إشكالية الثنائية التي باتت سمة تميز فكرنا المعاصر: التراث والعصر، الأصالة والمعاصرة، «الأنا والآخر».. مع أن بعض محللينا أكدوا أنها رؤية للعالم موروثة من العصور الوسطى الأوروبية التي كانت تميز الواقع وفق لونين أو وجهتي نظر أو فكرتين متصارعتين، إلا أن الجميع يلح على أن تلك النزعة القروسطية الغربية باتت علامة مفصلية في ثقافتنا بأكملها، ولعل كتاب «الفكر العربي وصراع الأضداد» للمفكر البحريني محمد جابر الأنصاري أبرز دراسة موسوعية تؤكد ذلك.

في كتابه «ثقافة الالتباس» يدفعنا المستعرب الألماني توماس باور، لإعادة النظر في فكرة الثنائية نفسها. يذهب باور إلى أن الحضارة العربية الإسلامية تأسست على التعدد، وذلك قبل أن يكون ضرورة واقعية وفكرية في الغرب خلال القرن العشرين. 

وأي نظرة في تاريخنا أو إلى علومنا القديمة ربما تدعم أطروحة باور. لم يعرف تاريخنا ذلك الصراع الطاحن بين فكرتين أو وجهتي نظر؛ بل كانت هناك سيولة في الأفكار وكثرة في المذاهب بداية من الفكر النظري وحتى الواقع العملي. إذا نظرنا إلى اللغة والقرآن الكريم بوصفهما أهم مكونين معرفيين في تراثنا سنجدهما قاما على التعدد، فهناك تيارات في البلاغة والنحو وتفسير القرآن تأسست على فكرة الاختلاف الذي اعتبر رحمة بين البشر، وينطبق هذا على مختلف العلوم سواء النقلية  النصية أو العقلية أو العملية، وهو ما انعكس بدوره في كثرة الفرق الفقهية والكلامية ومدارس التفسير والتصوف، الأمر الذي ترجم في تسامح لافت لمسته مختلف الأقليات الدينية والعرقية التي عاشت في هذه المنطقة.

تتأسس الثنائية على صراع فكرتين متناقضتين، تحاول كل منهما أن تنتصر على الأخرى، وتشترط خلفية اجتماعية وعوامل اقتصادية راسخة وواضحة تمثل كل طرف، وربما تؤدي الظروف وعوامل القوى إلى نشأة فكرة ثالثة مركبة منهما تدخل في حالة صراع مع فكرة رابعة وهكذا، فالطابع «الصراعي» هو ما يميز الأفكار وهو موروث يوناني أولاً، وهيمن على العصور الوسطى خلال صراع الكنيسة مع الدولة من ناحية، وصراعها مع العلماء من ناحية أخرى، ثم امتد إلى عصر الأيديولوجيات الكبرى. فالأيديولوجيا تُعرف نفسها بالمقارنة مع أيديولوجيا أخرى، وإن لم تجدها اخترعتها، كما حدث مع اختراع رهاب الإسلام في أعقاب انهيار الكتلة الشرقية.

هذا الصراع الواضح والمنظم لم تعرفه الحضارة العربية الإسلامية، ربما اخترعه مؤرخو الفكر وهم يسردون تاريخ اللقاء الحديث مع الغرب، والذي أدى  في الظاهر  إلى تشكل كتلتين: حداثية تميل إلى الثقافة الغربية، وتقليدية تميل إلى التراث، وذلك في الآداب والفنون والفكر، ولكن بالتأمل في إنتاج هاتين الكتلتين لا يمكن الخروج بثنائية واضحة، فأهم من حلل ودرس التراث العربي وأعاد نشره والتعريف به كان دوماً ينتمي إلى الكتلة الحداثية، وربما يعود ذلك إلى أن كل كتلة تُخفي داخلها تعددية حضارية عربية، لا ثنائية غربية تنفي الآخر وتحاول إزاحته.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"