الوقت الضائع

00:04 صباحا
قراءة دقيقتين

د. حسن مدن

من الحكايات الطريفة التي أوردها الشاعر بلند الحيدري في كتابه «عودة إلى الماضي» الذي سبق لنا الوقوف عنده، حكاية إصداره هو وثلة من أدباء العراق الشبان، في حينه، نشرة أسموها «الوقت الضائع»، مورداً حكاية هذه النشرة بمزيج من الجد والهزل.
كان أولئك الأدباء الشبان المتّقدون حماساً عرضة لشيء من التقريع من أهاليهم، لأن الفن والأدب اللذين يشغلانهم ما هما إلا مضيعتان للوقت، وفي غمرة هذا سمع أحد أفراد المجموعة برواية مارسيل بروست «البحث عن الوقت الضائع»، وبحماسة البعض قرروا إصدار تلك النشرة، وباسم «الوقت الضائع»، ليقولوا فيها «كل ما هو غير مألوف في الصحافة العراقية آنذاك»، وأعلنوا عن سعر مبالغ فيه للنسخة منها، ربما ظناً منهم أن ذلك سيوفر ما يلزم من مال لديمومة صدورها.
أصبح للعدد الأول من «الوقت الضائع» صدى واسع، خاصة لدى طلبة الثانويات وكليات الجامعة، ولم يكن لصدور نشرة بهذا المحتوى وبالاسم اللافت أن يمر مرور الكرام في مجتمع يخشى الجديد، ويرتاب في كل ما هو غير مألوف، فتتالت سهام النقد عليها، وعلى أصحابها، وعلت دعوات مقاطعتها، وأصبح المعترضون يقولون إن إضاعة الوقت في قراءة «الوقت الضائع»، وتحت ضغط الصعوبات المالية، وما واجهته النشرة من حملات سرعان ما توقفت بصدور عددها الثاني.
 ثمة تفاصيل أخرى أوردها الحيدري حول تلك النشرة وما نشر على صفحاتها في العددين اليتيمين اللذين صدرا منها، ولكن لنبقَ عند اسمها، وبعيداً عن مقاصد الشبان الذين أصدروها من اختياره هو بالذات اسماً لنشرتهم، فما أكثر ما نقول عن الأمور حين تأتي بعد فوات الأوان بأنها جاءت في الوقت الضائع، فلم يعد لها من جدوى، على عكس ما كان سيحدث لو أنها جاءت في وقتها، لكانت أحدثت أثراً.
أراد مصدرو نشرة «الوقت الضائع» أن يجعلوا من هذا الوقت غير ضائع، وأن يثبتوا أنه بالوسع تحويله إلى وقت مثمر، منتج، ليبرهنوا على أن انشغالهم بجديد الأفكار والمدارس في الفن والأدب ليس مضيعة للوقت، لكن هذا لن يغير من دلالة التعبير الذي ظلّ شائعاً حتى اليوم، ويبدو أنه سيظل ينطبق على حالنا العربية طويلاً، لأننا أمة بارعة في إهدار الفرص، خاصة منها تلك التي لا تتكرر، وبما أن «للأشياء أوانها»، تأتي فيه حين تكون الظروف ميسّرة لها، فإن لم يحسن توظيفها فإنها تتلاشى ولا تعود، وساعتها لن يجدي الاستدراك في شيء، فما فات قد فات، وقد لا يجود به الزمن ثانية، لذلك يكثر حديثنا عن الفرص الضائعة، عن الأوقات المهدرة، وعن الاستدراكات المتأخرة التي تأتي في الوقت الضائع.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب من البحرين من مواليد 1956 عمل في دائرة الثقافية بالشارقة، وهيئة البحرين للثقافة والتراث الوطني. وشغل منصب مدير تحرير عدد من الدوريات الثقافية بينها "الرافد" و"البحرين الثقافية". وأصدر عدة مؤلفات منها: "ترميم الذاكرة" و"خارج السرب" و"الكتابة بحبر أسود".

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"