تشريح الحرب فوق طاولة الضاد

00:34 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. نسيم الخوري

تتقدّم الحرب العالمية الجديدة المرتبطة بروسيا وأوكرانيا على كل انتباه لفهم التداعيات ومخاطر المستقبل الاقتصادي المقلق في العالم، إلاّ أنني أرغب بتجاوز التخيلات وتحليلات «الخبراء» الحارة جدّاً والباردة هنا في أوروبا بالتذكير إلى الحروب «ضرورة ملاصقة لنشأة البشرية» وكتب فيها أرتسيباسوف.

 هذا صحيح، لكنّ الكاتب تسلّى في كتابه «خارج نطاق الشرعية» بتعداد هذه الحروب حتى 1988، فوصل إلى 14513 حرباً، فقدت البشرية فيها 3 مليارات و640 مليون إنسان وخسرت بتقديره شريطاً من الذهب عرضه 8 كلم وسماكته 10 أمتار يمكن تحويط خصر الكرة الأرضية به عند خط الاستواء. سيطول الشريط كثيراً لو أكملنا التسلية عنه في احتساب الحروب بعد هذا التاريخ أي خلال 34 سنة، وخصوصاً من العراق والأحداث الشرق أوسطية والكورونا، ليعكس أمامنا الدول العظمى التي تمسك مجلس الأمن وتعنيها مصالحها ومصالح حلفائها في الكرة الأرضية والبحار والفضاء. 

 من يتذكّر ملامح النزاعات الجيوسياسية عبر الثورات الملوّنة التي وصلتنا باسم «الربيع العربي» وكلها ارتكزت على «القوى الناعمة» وجرّت خلفها خرائب «الفوضى الخلاّقة» للأنظمة وخلخلة الأوضاع والأسس تحت رحمة الانشغال الدولي. 

 صحيح أن روسيا قد تنبَّهت وتتنبه لهذا الأمر بما أقلق أوروبا ودول العالم ولو مُتأخِّرة، وهي ترَجَمَت وتترجم ذلك من خلال مقاربتها للعديد من الملفَّات، كان آخرها استراتيجيتها المتأرجحة في حرب الغاز وأنابيبه ومحاولة فرض أثمانه بالروبل الروسي بما يقلق العديد من دول العالم حول مستقبل العَظَمة، وخصوصاً في تهديد الوحدة الأوروبية.

 نشرت في هذه الصفحة تَطَوّر السلوك الروسي في سوريا في استعادة عظمتها الإمبراطورية من هناك عبر دعمها الأوّلي غير المعلن للنظام إلى التدخل العسكري المساهم في قلب المعادلة على الأرض قاضياً على الأحلام بمدّ الغاز إلى أوروبا ومطيحاً بمشروع «نابوكو»، لينعكس إيجاباً على العديد من الملفات العربية واللبنانية تحديداً حيث صدّق لبنان نفسه بأنه يحتل موقعاً مميزاً على الخريطة الدولية، مع اكتشاف حقول الغاز الطبيعي الهائلة على شواطئه، وهي اكتشافات كان ينتظر أو ما زالت في دوائر الوعود الغامضة، بالرغم من تعقيداته السياسية الداخلية والإقليمية، الذي سيعيد استقراره وإنعاش اقتصاده وإزاحة صخرة الدين العام عن صدره والفقر عن كاهله. لنقل بأن التجاذبات القديمة بين الدب الروسي والنسر الأمريكي، والاصطفافات الداخلية في ظل هذه التجاذبات قد تؤدي إلى خلاف ذلك لتبقى شعوب المنطقة تدفع أثمانها في بناء المستقبل العربي الذي هو أبداً بحاجة دولية إلى إعادة بنائه بالمعاني الاستراتيجية المختلفة.

 سأخرج من القلق العالمي والأوروبي - الفرنسي الذي أعايشه من باريس بالدقائق، مجازفاً بالقول بأنّ الإنسان حتى الغربي بمعناه السلطوي لم يخرج نهائياً بعد من قشرته الأولى، بل هو عاد ويعود إليها في حنين نرجسي غريب، حيث يمكنني سجن الحضارة والحرية والديمقراطية بين قوسين متسائلاً عن معنى هذا الجرف والنهم التاريخيين في الحروب وأهدافها. ببساطة الحرب هي الحرب التي تلازم إشباع غريزة العنف لدى الإنسان. وليس أفضل من اشتقاق مصطلح «حرب» تفسيراً له في لغتنا الضاد: الحرب هي الحبر الأحمر كيفما كان أو جاء؛ فلونه مشابه لدماء الجرحى والضحايا المهدورة المسحوقة كما الحشرات، وهو أسود عند توصيف الحروب أو في لباس الحزانى والمكلومين والتائهين الفارّين من الموت الجائعين في الأرض. 

 والحرب هي الربح الفردي ومعه تأخذ وجهها الدولي الجميل لكنه الزائف والمؤقّت والزائل حيث الانتصارات والنياشين والأوسمة وترقية الضباط والمقاتلين ورفع النصب التذكارية والتماثيل لهم والنقوش، حتّى ولو كانت الأرباح عشوائية ومؤقّتة ومُكلفة وزائلة بتقلّبات السياسة والأحلاف والمصالح بين الدول الممثلة بأفراد.

 الحرب رحبة في مداها التاريخي والوجودي الذي لا حدود فيه لأطماع الإنسان؛ إذ لم يترك البشر فيه نقطة أو حيّزاً استراتيجياً لم يُستثمر لمضاعفة القتل والفتك والتشنيع في الحروب. والحرب براح في الأرض على مدى الأجيال في الذاكرات واللوحات والساحات والكتب المدرسية تستمرّ لتشغل بوطأتها الأزمنة والأمكنة والنصف المظلم من عقول البشر. والحرب أخيراً بهذا المعنى، بحور واسعة ومحيطات تختلط مياهها بالدماء وبدموع الجرحى والثكالى والمساكين في الأرض.

 آه، لو أستطع نقل ما يتلفّظ به طلاّبنا مثلاً في الجامعات الفرنسية في نابليون بونابرت؟ لا يُصدّق!

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"