الرأس الضائع

00:05 صباحا
قراءة دقيقتين

أبدأ كتابة مقالاتي، عادة، باختيار العنوان، قبل الشروع في الكتابة، ثم أقرر بعد الانتهاء ما إذا كنت سأبقي عليه أم أغيّره، إذا وجدت أن سياق المقال يتطلب عنواناً آخر، وحين وضعت العنوان الذي تجدونه أعلاه قبل الشروع في كتابة هذا المقال، انتبهت إلى أن عنوان مقالي بالأمس كان «الوقت الضائع»، فقلت لنفسي: وهل سنبقى اليوم أيضاً في حال الضياع، أمس ضياع الوقت، واليوم ضياع الرأس؟، ولا شك أن ضياع هذا الأخير أشدّ وأدهى، كون الرأس مستودع الدماغ، ولنا أن نتخيل أنفسنا بدون دماغ، بدون عقل.
طبعاً العنوان قد يستدرجنا إلى إعادة ما قلناه أمس عن أنه يصحّ علينا، كأمّة، وصف «أمّة الوقت الضائع»، على الأقل في زمننا الراهن، فلعله يصحّ علينا أيضاً وصف «أمّة العقل الضائع»، والأدلة من على يميننا وشمالنا، ومن أمامنا وخلفنا، على فقداننا للعقل، أكثر من أن تحصى، لولا أن الحديث لن يأتي هنا على ضياع رأس فعلي، فضلاً عن أنه ليس رأساً عربياً.
الحكاية تدور حول امرأة اشترت تمثالاً من الرخام الأبيض لرأس إنسان في أحد المتاجر الخيرية في الولايات المتحدة، لتكتشف في وقت لاحق أنها اقتنت تحفة تاريخية عمرها يتجاوز 2000 عام، ولا تقدّر بثمن، والمرأة المشترية، واسمها لورا يونغ، هي في الأساس تاجرة تحف من أوستن بولاية تكساس، حيث اقتنت التمثال النصفي الذي يبلغ وزنه 50 رطلاً في عام 2018 بسعر لم يتجاوز 35 دولاراً وحزمتها في سيارتها بحزام أمان وأخذتها إلى المنزل.
وتواصلت لورا يونغ مع دار مزادات في لندن لعرض منحوتها ليأتيها الجواب الصادم، أن المنحوتة هي على الأرجح تمثال نصفي بمثابة صورة لجنرال روماني اسمه Drusus Germanicus، وأن تاريخ نحتها يمكن أن يعود لألفي عام، وأن ما هو متيسر من معلومات لدى هذه الدار تشير إلى أن آخر موقع معروف لهذه الرأس كان في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي في متحف في مدينة أشافنبورغ الألمانية تم بناؤه في أربعينيات القرن التاسع عشر وتعرض لأضرار كبيرة في الحرب العالمية الثانية.
سرعان مأ أصبح الرأس الرخامي الأبيض موضع اهتمام المعنيين من الباحثين، الذين شغلهم كيف وصل الرأس إلى أمريكا، ورجحت أستاذة لتاريخ الفن في جامعة أوستن أن يكون جندياً أمريكياً قد نهب التمثال النصفي بنفسه أو اشتراه من شخص آخر سبقه إليه، بالسرقة طبعاً، وليس في هذا ما يثير الغرابة. حسبنا هنا أن نذكّر بعضنا بما فعله الجنود الأمريكان مع المقتنيات الثمينة التي لا تقدّر بثمن في المتحف العراقي يوم استباحت قوات بلدهم العراق وعاصمته.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب من البحرين من مواليد 1956 عمل في دائرة الثقافية بالشارقة، وهيئة البحرين للثقافة والتراث الوطني. وشغل منصب مدير تحرير عدد من الدوريات الثقافية بينها "الرافد" و"البحرين الثقافية". وأصدر عدة مؤلفات منها: "ترميم الذاكرة" و"خارج السرب" و"الكتابة بحبر أسود".

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"