ورحل جدي «أحمد»

00:06 صباحا
قراءة دقيقتين

صوته، صورته، الشموخ في ملامحه، والحكمة في حديثه، الصبر في تجاعيد وجهه، والتفاني في سنوات عمره.. قصة من عقود ترجلت منذ أيام، مودعة الدنيا ومن فيها، مودعة رحلة كفاح طويلة، يعرفها البعض، وتغيب تفاصيلها عن الكثيرين.
 رحل جدي «أحمد»، رحمه الله، ومعه غابت آخر فصول جيل أجدادي، الذين علمونا قيمة الحياة وقصصها، وارتوينا منهم الحكمة من خلال معاناتهم الأولى، وصدق نواياهم. هم من علمنا أن نموت لأجل الكرم، وألا نكون بخلاء في كل ما نعيشه؛ أخلاقنا، صفاتنا، قيمنا وحتى تفاصيل يومنا. جيل لم يعش مرفهاً؛ بل عاش متعباً يخاف على غيره. 
جدي وجدكم هم انعكاس أعيننا حين نطالع السماء، ونزهو بشموخ وهيبة أننا امتداد لهم. أجدادنا صورة الحب اللامتناهي، وجسر العلم من رحلة الحياة الطويلة، كل السعادة كانت في حضنهم، والفرح والبهجة في جلساتهم. هم ليسوا مجرد أشخاص في حياتنا؛ بل هم أجمل ما عشناه في هذه الحياة.
كنت أطالع شريط الذكريات الطويلة الممتد بعمري، وأحلل كل ما فينا من صفات وما وصلنا إليه، فوجدت أن الكثير منها وبإدراك الماضي هو احتضان لصفاتهم، وامتداد لشخصياتهم، واستمرار لما غرسوه فينا، نحن جيل تربى على أيدي عظماء، أيدي أناس لم تستطع أشعة الشمس أن تخمد فيهم رغبة المضي والبحث، لم توقف فيهم رمال الصحراء غير المتناهية، إصرارهم على الصمود في وجه المعتدي، وقول كلمة الحق. نحن محظوظون عندما كانت لوحاتنا أحاديثهم، وجل وقتنا ونحن صغار يرتوي بعطفهم. من منا لا يذكر كيف كان يختبئ وراء جده وجدته، هرباً من عقاب والديه؟، ومن منا لا يذكر كيف كنا ننعم بالحب والعطف بين كفيهم؟ 
كانوا صورة الحزم والرحمة، التسامح والقوة، الكرم والهيبة، الطيبة والسعادة، إيواء المحتاج، النخوة والشهامة والتلبية، إن أردت وصفهم في كلمة، قلت: إنهم كانوا لنا الحياة حين قست الدنيا علينا.
سيمضي الوقت، وسنكبر، ستجف الدموع لربما مستقبلاً، لكن كيف لهذا الفراغ أن يصغر، ستهدأ كل الآلام، وستنجلي الأحزان وسنعود للحياة بهدوئها، بلا صوتهم وبلا وجودهم، «اللهم لا اعتراض»، ولتخبرنا رسالة الفقد: أعزوا كبيركم، وارحموه، كونوا حوله وفي قلبه، اجعلوا حياته سعيدة في الكبر، أخبروه كم تحبونه، وأنه القيمة الأهم في حياتكم، اخفضوا له جناح الذل من الرحمة، ارحموا ضعفه وقلة حيلته حين يسرق الوقت عمره، أعزوه وكونوا صورة جميلة لما تعب من أجله، أزيحوا ملامح العقوق، وترجموا قيمة الطاعة من خلال بركم، كونوا الجسر والسند والعون حين يزوره «أرذل العمر»، وقدموا له من ضحكاتكم وجبات تشبعه، الحياة فانية، والفقد يزداد ولسنا نحن إلا في قافلة المرتحلين، تأتينا المحطات ويترجل من نحب، فتوجعنا حالة الغياب، افرحوا بمن حولكم من أجدادكم وآبائكم ما داموا معكم، وأطلقوا الدعاء بلا انقطاع حين يرحلون عنكم، كونوا بارين بهم في حياتهم ومماتهم، وتذكروا: نحن صورتهم، هويتهم وامتدادهم..
رحمك الله يا جدي «أحمد جمعة»، وأسكنك ربي فسيح جناته.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

مؤلفة إماراتية وكاتبة عمود أسبوعي في جريدة الخليج، وهي أول إماراتية وعربية تمتهن هندسة البيئة في الطيران المدني منذ عام 2006، ومؤسس التخصص في الدولة، ورئيس مفاوضي ملف تغير المناخ لقطاع الطيران منذ عام 2011

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"