عادي
تفاصيل ثرية ودلالات تختزل فترة لافتة في التاريخ

«السفراء».. عصر النهضة في لوحة

23:26 مساء
قراءة 4 دقائق
1

الشارقة: عثمان حسن

تعتبر رسوماته مثالاً صارخاً على سحر وإبداع فناني عصر النهضة، وهو رسام ومصمم اشتهر بالتدقيق الشديد في لوحاته الواقعية، على وجه الخصوص تلك التي صورت بلاط الملك هنري الثامن، ملك إنجلترا. إنه الفنان الألماني الشهير هانز هولباين الأصغر (1497- 1543)، وتعتبر لوحة «السفراء» من أهم أعماله ورسمها في عام 1533، في فترة تيودور، في نفس العام الذي ولدت فيه الملكة إليزابيث الأولى. وإضافة إلى كونها تمثل «بورتريه مزدوجاً» فهي تحتوي على صور ساكنة لأشياء عدة معروضة بدقة متناهية، لكن معناها غير واضح، وكانت سبباً في العديد من الجدالات، واللوحة اليوم هي جزء من المجموعة الموجودة في معرض لندن الوطني.

تظهر لوحة «السفراء» براعة هولباين في استخدام الطلاء الزيتي، وفيها يظهر شخصان جنباً إلى جنب، هما السفيران جان دي دينتفيل، الرجل على اليسار، في بعثته الدبلوماسية الثانية إلى إنجلترا نيابة عن فرانسيس الأول، ملك فرنسا، والرجل على اليمين هو صديقه المقرب السفير جورج دي سيلف أسقف لافور، وقد رسم هولباين هذه اللوحة في عهد الاضطرابات الدينية في أوروبا. وفي اللوحة مجموعة من العناصر، بعضها موجود على الطاولة التي تفصل بين الشخصيتين، وهناك أشياء متناثرة وأدوات علمية مثل كتاب الحساب المفتوح على صفحة لها علاقة بالقسمة الرياضية، وهناك اسطرلاب، وكرتان واحدة أرضية والأخرى سماوية، ومزولة رعاة أسطوانية، إضافة إلى أنواع مختلفة من الأنسجة، بما في ذلك الأرضيات الفسيفسائية المستوحاة من الأديرة، وثمة سجاد شرقي على الرف العلوي، وهو مثال لما كان مستخدماً في رسومات عصر النهضة.

يرتدي الشخص الموجود على اليسار ملابس مدنية، بينما يرتدي الشخص على اليمين ملابس رجل دين، وهما يحيطان بطاولة عليها كتب متنوعة ورموز متعلقة بالمعرفة الدينية.

رموز

ما هو مهم في اللوحة، هو وجود الجمجمة، التي تظهر كرمز غامض، يثير الجدل في عمل هولباين، والجمجمة هنا، جديرة بالملاحظة في أكثر من مستوى، فهي تستلقي في الجزء السفلي من اللوحة، ويعرضها هولباين بصورة مشوهة بصرياً، وهذه التقنية كانت موجودة بالفعل في عصر النهضة المبكر، وهي تشكل لغزاً بصرياً لافتاً، فهي تصور جمجمة بشرية طبيعية، وأحد التفسيرات تقول إنها ترمز إلى قصر الحياة الدنيا، ومن جهة ثانية فهي بمثابة تذكير بالموت، لكن سبب إعطائها هذه الأهمية، والبروز في اللوحة من قبل هولباين لا يزال غير واضح في اللوحة كذلك، متعلقات ذات إشارات ورموز دينية وغامضة، مثل الصليب المخفي في أعلى يسار الصورة، كما نلاحظ العود مقطوع الوتر بجانب كتاب التراتيل، حيث يؤكد كثير من الخبراء أن اللوحة تحمل إشارات خفية على الصراع بين السلطتين العلمانية والدينية.

اللوحة الأبرز

نظر نقاد كثر إلى اللوحة، باعتبارها الأبرز في أعمال هولباين، رسمها في إنجلترا، كأبرع وأنضج ما أنجزه من لوحات، من حيث محمولاتها الفكرية والجمالية، وتضمنها لكل ما يعبر عن عصر النهضة. هذه المرحلة لهولباين في إنجلترا أوصلته إلى ذروة تألقه كمجدد في فن البورتريه، وأحد التفسيرات تؤكد أنه كان معجبا بسلفه فنان عصر النهضة الإيطالي رافائيل (1483 - 1520) الذي وجد ضالته في رسم بورتريه صديقه الديبلوماسي الإيطالي بلداسار كاستليوني صاحب كتاب «رجل البلاط»، وبورتريه كاستليوني كان من أعظم بورتريهات عصر النهضة، ولذلك حرص هولباين على رسم بورتريهات تنافس رافائيل في قوة تعبيرها والتقاطاتها لكل ما هو إنساني، وكان هولباين استطاع بالفعل أن ينجز بورتريه للقائد السياسي والمؤلف والعالم الإنجليزي الشهير توماس مور (1478 - 1535) وقد نجح في ذلك، وقام بعدها برسم لوحته الشهيرة «السفراء» كبورتريه مزدوج، متجاوزاً ذاته وفنه إلى درجة كبيرة وملحوظة.

تقنية

في رسم البورتريه على وجه الخصوص، تميز هولباين بتقنية خاصة ميزته عن غيره من الرسامين، حيث كان دائماً يعنى برسم تخطيطات مفصلة للغاية بموضوعاته باستخدام القلم الرصاص، ثم يقوم بتنفيذها واستكمالها بالحبر والطباشير الملون، وقد عرف عنه رسمه لتفاصيل الوجه من دون يدين، ثم يرسم الملابس بتخطيطات شكلية فقط، ثم ينقل تفاصيل الخطوط العريضة لهذه الرسومات على دعامة اللوحة النهائية باستخدام ثقوب صغيرة في الورق، ومن خلالها ينقل مسحوق الفحم. وفي السنوات اللاحقة استخدم هولباين نوعاً من ورق الكربون، وكان للرسومات النهائية في أعماله نفس حجم الرسومات الموجودة في الأصل، وهذه الرسومات في عمومها تقف اليوم كأعمال فنية مستقلة وفريدة ومنجزة بدقة.

قام هولباين برسم عدد قليل من المنمنمات الرائعة، بعد أن تعلم هذا الفن من قبل لوكاس هورينبوت، أحد فناني بلاط هنري الثامن. ورسم هولباين أثناء وجوده في البلاط الإنجليزي زوجة هنري الثالثة جين سيمور، وأختها إليزابيث التي تزوجت من ابن توماس كرومويل. وبعد وفاة سيمور رسم هولباين كريستينا الدنماركية أثناء المفاوضات بشأن زواجها المحتمل من هنري الثامن، الذي قوبل بموافقة هنري، ورفض كريستينا.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"