واقعية فرنسا وشطط الغرب

00:48 صباحا
قراءة دقيقتين

مفتاح شعيب

ما زال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أكثر زعماء الغرب اعتدالاً في التعامل مع الأزمة الجارية في أوكرانيا، ولم تنقطع اتصالاته بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين. ربما يعود ذلك إلى واقعية السياسة الفرنسية وسبقها التاريخي في الحروب والصراعات داخل أوروبا ومع روسيا بالذات منذ الهزيمة الشنيعة لجيش نابليون عام 1812. وهذه الواقعية تفرض على باريس انتهاج مقاربة مختلفة عما تسلكه الولايات المتحدة وبريطانيا إزاء هذه الأزمة.

 يعتقد ماكرون أن إحلال السلام في أوكرانيا وأوروبا لن يكون عبر «إذلال» روسيا أو دفعها إلى الانهيار والاستسلام، فهذا السيناريو غير ممكن ونتيجته كارثة واسعة النطاق سيدفع ثمنها العالم كله بلا استثناء. وما يتوهمه صناع القرار في واشنطن ولندن، على وجه التحديد، من إلحاق «هزيمة ساحقة» بروسيا مزايدات سياسية في غير محلها وزمنها، فهذا الأسلوب كان مجدياً في حروب ما قبل العصر النووي، أما اليوم فقواعد الصراعات متشابكة ومعايير النصر والهزيمة معقدة ولا يمكن ضبطها وتحديدها كما كان الحال قبل عقود. ومرّ خطاب بوتين في عيد النصر على النازية دون مفاجآت، فلم يعلن النصر في أوكرانيا ولا وقف إطلاق النار ولا الحرب الشاملة، كما توقع بعض قادة «الناتو»، بل أعلن أن المعركة مستمرة، وتحقق أهدافها. وهذه الأهداف يمارس عليها الغرب تعمية مقصودة، ويحاول فرض سياق للنزاع غير الذي تعلنه موسكو وتؤكده مجريات المعركة في الأرض الأوكرانية.

 ما رمى إليه بوتين في موسكو التقطه ماكرون في برلين عندما قال «إنه لا يرى حتى الآن أي بصيص أمل نحو إنهاء الصراع»، بينما كان وزير الدفاع البريطاني بين والاس يغرد بعيداً، وتكهن بأن «هزيمة أوكرانيا للجيش الروسي أمر ممكن جداً»، وهذا المصير لا ترجحه وزارة الدفاع الأمريكية، وهي تتمناه. أما ما يتصل بالشراسة البريطانية ضد روسيا فأسبابها كثيرة، وتعود للحقب الماضية عندما تواجه البلدان في أكثر من معركة وأزمة حتى أفلت الإمبراطورية «التي لا تغيب عنها الشمس».

 العالم يتطور وتوازنات القوة تختلف من حقبة إلى أخرى، إلا الغرب فإنه لم يتغير، ومازال غارقاً في شططه، ويصّر على أنه مركز القرار العالمي وصانعه، متكئاً في ذلك على إرث يمتد إلى أكثر من قرنين، شهد عشرات الغزوات والاحتلالات لدول عديدة في قارات الدنيا دون أن يحاسب، أما عندما تفعل ذلك قوة من خارجه، تصبح مارقة وخارجة على الشرعية، وبسرعة قياسية تتسابق القوى الغربية إلى فرض العقوبات والحصارات والتشويه والشخصنة عبر التفريق الخبيث بين الشعب وحاكمه. 

 ففي الحالة الأوكرانية أصبح الجيش الروسي مثلا «جيش بوتين» والصراع بات «حرب بوتين»، وهو أسلوب تقليدي ربما يكون قد نجح سابقاً مع أدولف هتلر، ولكنه اليوم بات متجاوزاً، لأن روسيا ليست ألمانيا النازية أو إيطاليا الفاشية، بل دولة راسخة في عمق الأمن الأوروبي والنظام العالمي، وقد يكون ماكرون واقعياً في مواقفه من هذه الناحية، مثل سلفه شارل ديغول، الذي توقع قبل أكثر من نصف قرن أن مستقبل أوروبا سيكون آمناً إذا انبنى على علاقات متوازنة مع أوراسيا وقطبيها روسيا والصين.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"