الهروب من الفقر

21:45 مساء
قراءة 4 دقائق

د. لويس حبيقة *
ما الأخطر على المدى الطويل كورونا أم الحرب الأوكرانية؟ كورونا لا تهدأ؛ إذ تتغير أشكالها وتأثيراتها المفاجئة. لا يرتاح العالم من الموجة الأولى كي تبدأ الثانية وهلم جرا حتى الخامسة الآن، أي «أوميكرون» وهي الحرف الخامس عشر من الأبجدية اليونانية التي اختارتها منظمة الصحة العالمية كاسم للموجة الأخيرة الآتية من جنوب إفريقيا. كيف يمكن للعالم أن يهرب من الفقر عندما تدق الأبواب موجات كورونا، فتعزز مآسي الوجع والفقر وتبقي الإنسان في موقعه المعيشي المتدني؟

يقول أنغوس ديتون الحائز جائزة نوبل للاقتصاد إن العالم أفضل اليوم مما كان عليه في القرن الماضي أو ما قبل. يتمتع إنسان اليوم بصحة أفضل وأوضاعه المعيشية أعلى ويعيش عدد سنوات أكثر. هرب الإنسان من العوز والحرمان والموت المبكر ويعيش اليوم حياة أفضل ويمارس إنتاجية أعلى. لكن هذا التقدم لم يحصل بشكل متوازٍ، أي لم تتحقق العدالة فاستفاد قسم من المجتمعات؛ بل من الدول أكثر بكثير من غيره. التقدم لا يقيم فقط بالناتج المحلي؛ بل أيضاً بالمؤشرات الصحية المختلفة وصولاً إلى مؤشرات السعادة التي يصعب تقييمها.

لا ننكر أن لسوء توزيع الثروة والدخل فوائد في بعض الأحيان؛ إذ يدفعان من هو خارج هذه المجموعة الميسورة إلى العمل الجاد للانضمام إليها وبالتالي يسهم الجميع في نهضة المجتمعات. تكمن المشكلة أحياناً في أن بعضاً ممن نعموا بالدخل والثروة يحاول منع الآخرين من اللحاق بهم وهذا في غاية السوء والشر. فالهروب من الفقر لا يعني فقط تحسين الأوضاع المادية؛ بل يعني خاصة رفع المستويات الصحية في المجتمع والاثنان غير مترابطين دائماً.

قال أمارتيا سن الحائز أيضاً جائزة نوبل إن ضرب الفقر أو حصول التنمية هو من الحريات. فالمادة ليست كل شيء؛ بل هنالك أمور مثلها كالصحة التي ترفع نوعية الحياة ضمن المستوى المادي نفسه. فالإنسان الذي لا يتمتع بالصحة الجيدة أو يعاني أمراضاً جدية لا يمكن أن يشعر بكل تحديات الحياة اليومية.

هنالك أمور أخرى متنوعة تؤثر في نوعية الحياة منها التغير المناخي والفشل السياسي وانتشار الأوبئة والحروب. تؤثر في التطور المادي كما على مؤشرات الصحة والعمر المرتقب. لا شك أن العالم تقدم في الإنتاج المادي كما في الصحة وإن بشكل غير متوازٍ تبعاً للعصور والأوقات والأمكنة. لا تشير المؤشرات إلى علاقة مؤكدة بين البحبوحة المادية والصحة، لكن يمكن القول إن أصحاب الدخل المنخفض يدخنون عموماً أكثر ويموتون بعمر أقصر، لكنها طبعاً ليست القاعدة. نرى ميسورون يدمنون على الممنوعات المكلفة ويقصرون حياتهم بيدهم. فالهروب الأهم في تاريخ الإنسان هو الهروب سوية من الفقر والموت.

هنالك اليوم دول في العالم تنخفض فيها مؤشرات الصحة إلى أدنى مما كانت عليه في الغرب في 1910. 25% من أطفال بعض الدول الإفريقية أو الآسيوية يموتون قبل سن ال 15 وعمرهم المرتقب عند الولادة يقل عن 40 عاماً. هذه المجتمعات لم تحقق بعد الهروب من الفقر والموت ونحن في سنة 2022. لا ننكر أن حتى في تلك الدول حصل تقدم منذ الحرب العالمية الثانية، لكنها تبقى متأخرة بسبب الفساد والإهمال والاستعمار وعدم الوقاية وسوء الإدارة. أما من ناحية السعادة، فمؤشراتها صعبة التقييم؛ إذ نتفاجأ أحياناً أن أشخاصاً بصحة سيئة وفقراء يشعرون بالسعادة، وغيرهم أغنياء وبصحة جيدة يشعرون بالتعاسة. العوامل مختلفة ويمكن أن تتصل بالنفسية والتربوية وبالمستوى العلمي والثقافي.

كل هذه العوامل لها أهميتها في عالمنا الذي يعاني كافة الأمراض المزعجة بدأ من سنة 2019. نعاني انحداراً للنمو وارتفاعاً في البطالة وانتشار «كوفيد- 19» بأشكاله المتغيرة كما نعاني ارتفاع أعداد الموتى بكورونا وغيرها. المدهش منذ 2019، أن العالم أجمع على الرغم من كل التطور التكنولوجي لم يستطع مواجهة كورونا وسقطت الاقتصادات الواحدة بعد الأخرى واليوم يأتي دور الصين. منظمة الصحة العالمية كانت ضائعة ولا تعرف ماذا تفعل على الرغم من أنها المنظمة الدولية المتخصصة التي أنفق عليها ملايين الدولارات لتقوم بالواجب. طبعاً لم يكن العالم كريماً مع المنظمة، لكنها حصلت على الموارد لتعمل بشكل أفضل. الرئيس ترامب اتهمها بأنها تنفذ المصالح الصينية وهدد بالخروج منها. الرئيس بايدن يحاول دعمها ضمن الإمكانات. وصف صندوق النقد الدولي أزمة كورونا بالفريدة والاستثنائية.

كيف واجه العالم وباء كورونا؟ استعمل الأدوات التي مارسها لمواجهة أزمة 2008 المالية أي عبر ضخ المال السريع وتدخل المصارف المركزية لزيادة النقد. هذه العوامل التي ترافقت مع ضعف النمو أحدثت التضخم الذي ضرب الفقراء. أظهرت هذه الأزمات الصحية مدى ترابط دول العالم، فلا يمكن حل مشكلة كورونا في أمريكا وحدها ولا في الغرب وحده؛ بل يجب مواجهتها بالتضامن العالمي. المواجهة تتم باللقاح والتباعد والوقاية علماً بأن أعداداً كبيرة من السكان ما زالت ترفض أخذ اللقاح مما يؤخر الشفاء العالمي.

الفريد في أزمة كورونا المتجددة أنها أقفلت الاقتصاد العالمي مراراً ضمن موجات الاستهجان والرفض والاعتراض وعدم اتباع الإجراءات وعدم الفهم أحياناً. كما هنالك الشعور بالخجل تجاه الحاجة إلى هذه الإجراءات في أوقات ظن العالم أنه تقدم خلالها إلى أقصى الحدود.

هنالك من يقول إن نمط الحياة الاستهلاكية سببت كورونا كما أحدثت التغير المناخي. هذا يعني أن مشاكل الصحة والبيئة هي نتيجة أعمالنا وحياتنا وطرق استهلاكنا وبالتالي الحلول الطويلة الأمد متوافرة. كما لم يواجه العالم التلوث المناخي أهمل مواجهة مظاهر كورونا، فكبرت الأمراض وانتشرت. من الممكن أن تغير كورونا طريقة العيش في الاستهلاك والإنتاج كما حصل بعد الإنفلونزا الإسبانية التي غيرت الأنظمة الصحية في الدول التي عانتها.

* أكاديمي لبناني

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"