عالم التكنولوجيا «السعيد»

00:46 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

تتميز الساحة العربية تاريخياً بسيولة في معاني الكثير من الكلمات والمصطلحات، وهي سيولة تزايدت وتيرتها في أعقاب انتشار مواقع التواصل الاجتماعي، حتى اتسم العديد من المفردات بحالة واضحة من عدم الدقة التي تقترب من الغموض في كثير من الحالات.

   قبل هذه المواقع ، كانت هناك عشرات التعريفات لمفردة «المثقف» على سبيل المثال، تعريفات ترتبط بثلاثة حقول: علاقة المثقف بالسلطة، ورؤيته للمسألة الحضارية، والموروث والوافد، ووجهة نظره حول الطريقة التي نصل بالثقافة إلى الجمهور. هذه الحقول بما نتج عنها من أطروحات متعددة، ومعارك لا تنتهي دفعت البعض ومن باب الراحة الفكرية، أو الكسل العقلي إلى تقديم تعريف «جامع غير مانع». بتعبير أهل المنطق للمثقف، مؤداه أن كل شخص يهتم بالشأن العام، بالإمكان أن يُطلق عليه مسمى «مثقف»، وانتشر هذا التعريف واكتسب وجاهته من خصوصية مفهوم «الشأن العام» وقتها، والذي كان يعني الهّم السياسي والفكري، ولكنه في العمق مفهوم مائع، فالشأن العام يشمل كل شيء في الحياة، بداية من الفلسفة وحتى أساليب الطبخ.

 والآن، الشأن العام معروض ومتاح على مدار اللحظة للجميع، أي أن كل من يحمل هاتفاً محمولاً أصبح منخرطاً في ذلك الشأن العام، وبالتالي بات جميع البشر ينتمون إلى فئة المثقفين «الجدد»، ولم يعد لتلك الفئة، بمفهومها الكلاسيكي القديم، أي مكان أو معنى في عصر التكنولوجيا فائقة الحداثة، وهو الأمر الذي ترسخه تلك التكنولوجيا بأسلوب منظم.

  مع التكنولوجيا نشأ عالم جديد، انقلبت فيه المفاهيم، بمعنى أننا في الماضي كنّا نستخدم مفردة «الجاهل» للدلالة على الشخص الذي لا يهتم بالشأن العام، هو غير معني بالظروف والأحوال المجتمعية المحيطة به، ولا يدرك تأثيرها في حياته اليومية. من هنا كان جهله، ومحاولة البعض تنويره أو تثقيفه أو الارتقاء بوعيه، الآن إذا سألنا الأجيال الجديدة: من هو الجاهل؟ سيقولون هو الإنسان الذي لا يعرف كيف يتعامل مع التكنولوجيا، أو الذي لا يقضي يومه محدقاً في شاشة الهاتف، أو ليس لديه حسابات على مواقع التواصل، هذا هو الجاهل الآن ، والذي ربما يقرأ على مدى عدة ساعات في اليوم.

 في حضرة تلك التكنولوجيا، نحن أمام مفارقة تثير السخرية، فكل من يحدق في هاتفه على تماس بالشأن العام، ولكنه أيضاً ليس معنياً به أو مهموماً بقضاياه، وبامتلاكه المعرفة بين يديه هو ينتمي إلى فئة المثقفين «الجدد»، وبحساباته على مختلف المواقع تخلى تماماً ونهائياً عن لعنة توصيفه ب«الجاهل»، ولكنه في الوقت نفسه لا يستطيع أن يعبّر عن رأي موزون تجاه أية مسألة.

  إن متابع عالم التكنولوجيا «السعيد»، لا بد أن يصاب بالبلبلة، حيث لا حدود واضحة بين مستويات مستخدميها، ومن الصعب التمييز بين فئات جمهورها، وذلك بخلاف وسائل الإعلام أو التثقيف أو حتى الترفيه القديمة، هو جمهور شبح، سينتج على المدى الطويل «ثقافته» الخاصة المفارقة لكل ما نعرفه الآن، ولكنها برغم رفضنا أو نقدنا لها، ستكون نتيجة «التطور» الذي لا يمكن إيقافه.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"