بيت السناري

00:21 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. مصطفى الفقي

في ذلك الحي العريق، حي السيدة زينب رضي الله عنها، وفي قلب القاهرة يقع بيت مملوكي عتيق هو «بيت السناري» الذي اتخذه بعض علماء الحملة الفرنسية مقراً وعاش فيه أيضاً بعض قادتها العسكريين، وقد تم اتفاق منذ سنوات بين المجلس الأعلى للآثار المصرية ومكتبة الإسكندرية لكي يكون ذلك البيت الأثري في حيازتها بجعل رمزي سنوي على أن تتولى المكتبة إدارته ثقافياً واجتماعياً وفنياً ليصبح مركز إشعاع في ذلك الحي الشعبي الذي تفوح منه رائحة التاريخ، وتتناثر حوله الآثار الإسلامية والرموز الباقية من عمران الأولين وتراثهم الخالد.

 ولقد تحول بيت السناري في السنوات الأخيرة إلى منارة مضيئة في وسط ذلك الحي الشعبي المتميز على مقربة من مسجد السيدة زينب الملقبة بالطاهرة وهي من سلالة بيت النبوة رضي الله عنها فهي بحق (أم العواجز) كما يسميها العامة في مصر. 

 وما من مرة زرت فيها بيت السناري- وما أكثر ما فعلت- إلا وشعرت بأجواء تاريخية قاهرية تشعرني بالدفء الإنساني والمناخ الشعبي في بيئة مصرية خالصة، وما أكثر الندوات التي حضرتها والاحتفالات الدينية والصوفية التي شهدتها التي قاد معظمها الفنان المتفرد انتصار عبد الفتاح وفرقته للأناشيد الدينية الإسلامية والمسيحية على نحو غير مسبوق، كما أن اللقاءات الفكرية في صحن تلك الدار التاريخية تعطي إحساساً بأن بصمات الزمن على وجوه كل الحاضرين ثقافة واستنارة وضياء، فضلاً عن استضافة بيت السناري لعدد من لقاءات الصالون الثقافي العربي الذي أتشرف شخصياً برئاسته ويضم عدداً من كبار المسؤولين العرب وسفراء الدول الشقيقة في القاهرة وعدد من المفكرين وكبار المثقفين وقادة الرأي.

 وقد حرصنا على أن يظل بيت السناري متاحاً لمن يريد، وكثيراً ما شهدت بعيني كل ليلة العشرات من الفتيان والفتيات والأطفال يمارسون هواياتهم المختلفة في ورش الفنون التشكيلية في إطار أحد المعارض الموسمية المتكررة للرسم والنحت، فضلاً عن تكريم شخصيات تاريخية مثل عبد الرحمن الكواكبي ابن حلب الشهباء الذي مات في القاهرة في ظروف غامضة مطلع القرن الماضي لأنه واجه السلطان العثماني بشجاعة ودافع عن الأمة الإسلامية ضد الاستبداد وطبائعه المقيتة، كذلك احتفى البيت بأسماء عدد كبير من الفنانين المصريين وقدموا أمسيات متخصصة واحتفظوا ببعض آثارهم معروضة في البيت على الدوام، كما جرى افتتاح منفذ بيع لمطبوعات مكتبة الإسكندرية- وما أكثرها وأعظمها- في بيت السناري، حتى تكون في متناول من يسعون إلى الثقافة ويطلبون المعرفة من أبناء القاهرة القديمة بعراقتها وتألقها وأضوائها، أما عن بيت السناري في شهر رمضان فحدّث ولا حرج، فكانت آخر ندواته التي تشرفت بإدارتها هناك في ذلك الشهر الكريم قد جمعت في رحاب الدار كل أطياف الحوار السياسي والفكري في إطار موضوعي وجاد حول القضايا المصرية والإقليمية والدولية. إنه بيت السناري الذي يتنافس مع بيوت تاريخية أخرى متناثرة في الأحياء القاهرية القديمة يعود بعضها إلى العمارة الفاطمية والآخر إلى العمران المملوكي بينما تنسب مجموعة أخرى إلى القاهرة الخديوية بكل حداثتها ورونقها.

 إن مكتبة الإسكندرية وهي حامية التراث وراعية الإبداع والثقافة وحافظة الهوية المصرية تسجل دائماً على نفسها دورها الفكري والتثقيفي والترفيهي في كل الأوقات لأنها صاحبة رسالة حضارية تطل بإشعاعها على المتوسط وتنشر ضياءها في ربوع الدلتا والوادي وتبعث برسائل الاستنارة في كل اتجاه من عالمنا المعاصر. 

إن بيت السناري يقف إلى جانب بيوت أخرى تحول معظمها إلى مراكز تثقيف وتوعية نذكر منهم في هذا السياق بيت السحيمي وقصر الأمير طاز وبيت يكن في الدرب الأحمر، فضلاً عن قصر المانسترلي الذي أصبح مركزاً للفنون والموسيقى فوق مقياس النيل شاهد العصور وربيب النهر الخالد. وأنا شخصياً من دعاة استثمار المواقع الأثرية القديمة لكي تكون منارات ثقافية يجري توظيفها لدى الأجيال الجديدة؛ بحيث تمثل لهم ارتباطاً بين الماضي والحاضر، بين الأصالة والحداثة، بين القدم والمعاصرة، وعلى ذلك الدرب يمضي بيت السناري مواصلاً رسالته محلقاً في آفاق المعرفة وسماوات الفكر وأجواء الثقافة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"