قلق العنف واللّاعنف

00:28 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبد الحسين شعبان

هل اللّاعنف ضرورة فلسفية وحاجة ماسة، أم مجرد ترف فكري وأمنيات مثالية؟ هذا سؤال طالما يتردّد في الأوساط الأكاديمية وفي النقاشات الثقافية وحوارات مؤسسات المجتمع المدني والإعلام، فضلاً عن الفقه الديني. وهناك من ينحاز إلى هذه، مثلما هناك من ينحاز إلى تلك، والسؤال دائماً يتوجّه إلى دعاة اللّاعنف، خصوصاً حين تعجز بعض وسائل اللّاعنف عن تحقيق أهدافها على نحو ملحوظ وسريع وحاسم، فحتى ما يسمى «الربيع العربي» الذي تبلور بسلسلة احتجاجات وحركات اعتصام وتمرّد سلمي ومدني ولاعنفي، تحوّل في الكثير من الأحيان إلى أعمال عنف منفلتة من عقالها، وفوضى عارمة، وقاد إلى صدامات واحترابات أهلية مسلحة، دمّرت الكثير من عناصر التعايش السلمي في مجتمعاتها، ولم تخلق شرعيات جديدة في مواجهة الشرعيات القديمة.

 ولعلّ ذلك ما يثير قلقاً وجودياً إزاء الخشية من التغيير الذي قد يسبّب عنفاً وانفلاتاً وتفتتاً وتشتتاً واحتراباً في مجتمعات بدت مستقرة وآمنة ومتعايشة لفترة من الزمن، وإن كانت أقرب إلى السكون، حيث انتعشت فيها الهويّات الفرعية، الإثنية والدينية واللغوية والسلالية والجهويّة، على نحو سافر، بسبب الكبت المزمن من جهة، ومحاولة التعبير عن نفسها وخصوصيتها من جهة ثانية، لدرجة أخذت تهدّد الكيانات القائمة.

 وبين عشية وضحاها تفكّكت دول وانقسمت واحتربت وتعادت، وهكذا تشظّى الاتحاد السوفييتي السابق ليصبح 15 كياناً، ويوغوسلافيا تفتّتت وتجزّأت إلى 6 كيانات، وانقسمت جمهورية تشيكوسلوفاكيا إلى قسمين (جمهوريتي تشيكيا وسلوفاكيا)، وانبعثت موجة تعصّب وتطرّف وعنف وإرهاب في العديد من البلدان العربية التي طالتها عملية التغيير، خصوصاً بالوسائل العنفية.

 وكل ذلك شكّل عائقاً كبيراً أمام عملية التنمية المستدامة، الأمر الذي يحتاج إعادة البناء وإلى جهود مضنية وإمكانات كبيرة، حيث تؤكد التجربة أن التغيير بالعنف يفتح الأبواب على مصراعيها إلى عنف مضاد وهو ما يعزّز استشراء الفوضى، خصوصاً في المجتمعات المتخلّفة، حيث الفقر والجهل، والتعصّب ووليده التطرّف الذي حين يتحوّل إلى سلوك أو ممارسة، يصبح عنفاً، وحين يكون عابراً للحدود ويضرب عشوائياً يصير إرهاباً دولياً.

 قد يجد الفكر العنفي ذرائع مختلفة لتبرير استخدام العنف، حتّى أن فلاسفة ومفكرين كانوا يعمدون إلى تقديم حجج نظرية تجيز استخدام العنف طالما الإنسان ذئب على أخيه الإنسان حسب توماس هوبز، الذي يعتبر العنف سمة أساسية وفطرية عند الإنسان تدفع كل واحد لاستخدام العنف سبيلاً للتقدم. وهو يرى أن العنف حلّاً منطقياً وضرورياً للبقاء بالنسبة للأفراد المفيدين للتخلّص من أولئك الطفيليين الذين يستنزفون الموارد باستمرار.

 أما مالثوس فالحروب بالنسبة إليه هي الحل المنطقي للتخفيف من التزايد السكاني، فالفرد الذي لا يستطيع أن يجد عملاً في المجتمع يجب ألا يكون له نصيب من الغذاء، فهو عضو زائد، وهو ما ورد في كتابه «بحث في نظرية السكان». وذهب هتلر أكثر من ذلك بالدعوة إلى قتل المرضى وذوي الاحتياجات الخاصة على اعتبار أن التخلّص منهم ضرورة تفسح المجال لتطور المجتمع.

 لكن أصحاب اللّاعنف يردّون على تلك الدعوات العنفية ويفنّدون أسسها الفكرية، حيث يذهب الفيلسوف الألماني إدموند هوسرل إلى اعتبار أن تطوير الأنا ضرورة لوعي العالم، وفي ذلك إعادة الاعتبار للذات وتحريرها من عزلتها، والأنا ليست وحيدة، وهناك «أنيات» أخرى تشاركها للعيش في هذا العالم.

 أما الفيلسوف الفرنسي إيمانويل ليفيناس، فيطرح سؤال الوجود الفلسفي، وهذا الوجود هو مصدر البهجة والسعادة في الحياة، وأن تقليله يخلق الحزن، الأمر الذي يستوجب الانتقال من الذات إلى تحقيق الفكرة الإنسانية من خلال اللقاء بالآخر، والآخر هو شرط لهويّة الذات.

 وقد تأثر ليفيناس بالمسيحية والبوذية وبغاندي، وحسب غاندي «اللّاعنف هو أقوى قوة في متناول البشرية. إنه أعتى سلاح من أسلحة الدمار تم التوصل إليه من خلال إبداع الإنسان»، وهو يعني رفض استخدام العنف الجسدي لتحقيق تغيير اجتماعي أو سياسي. إنه شكل جديد من أشكال الكفاح الاجتماعي.

ووفقاً لجين شارب: اللّاعنف أسلوب يستطيع به الناس الذين يرفضون السلبية أو الخضوع، والذين يرون الكفاح ضرورياً أن يخوضوا صراعاتهم من دون عنف، واللّاعنف ليس محاولة لتجنب أو تجاهل الصراع، بل هو استجابة لمشكلة كيفية العمل بفاعلية في مجال السياسة، لاسيّما كيفية استخدام القدرات بفاعلية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أكاديمي ومفكر وكاتب عراقي، وهو نائب رئيس جامعة اللاّعنف وحقوق الإنسان (أونور) في بيروت. له مساهمات متميّزة في إطار التجديد والتنوير والحداثة والثقافة والنقد. يهتم بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني والأديان، والدساتير والقوانين الدولية والنزاعات والحروب. صاحب نحو 70 كتاباً ومؤلفاً.

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"