انعطافات الفن العربي المفجعة

00:13 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. علي محمد فخرو

يحتاج فنانو وفنانات العرب، وعلى الأخص المغنين منهم والمغنيات، أن يذكّروا أنفسهم بأنهم يعيشون في وطن عربي له في حاضره خصوصيته التاريخية المملوءة بالآلام والمشاكل، والتي تفرضها وتجذرها في الواقع العربي المعيش قوى خارجية متآمرة من جهة، وقوى داخلية أنانية، أو انتهازية، أو جاهلة، من جهة أخرى.
  لذا، فإن توجهاتهم وتعبيراتهم وسلوكاتهم، الموجهة على الأخص إلى شباب وشابات الأمة، تستطيع إما المساهمة في تجييشهم للمساهمة في إخراج الأمة من الوضع البائس الذي تعيشه، وإما المساهمة في حرفهم نحو التافه والسطحي والإباحي الذي يجعلهم عبئاً إضافياً على هذه الأمة المنهكة بألف قضية وقضية.
  من هنا الأهمية القصوى لإدراك الفنانين العرب أن هؤلاء الشباب والشابات لا يحتاجون فقط لمن يمجد علاقات الحب، أو يواسي من يعانون إخفاقاته وخياناته وأوهامه الشبابية، والنتيجة هي أن تنقلب حياة الشابات والشباب العرب إلى دوران دائم حول عالمهم الذاتي والخاص.
  ولكن هؤلاء الشابات والشباب يحتاجون أيضاً إلى من يوقظ فيهم المشاعر الوطنية والقومية العروبية، والإيمان بالأفكار والإيديولوجيات الكبرى والنضال لتحقيقها، والالتزام بأخلاقيات وقيم العدالة والإنسانية، وبالتالي الدفع نحو الابتعاد عن قيم الفردية الأنانية والاستهلاك المادي النهم وعبادة أبطال الرياضة والفن الهابط، والانغلاق في عوالم مركزية العواطف الحبية المرتبكة فيما بين المراهقين من الشباب والشابات.
 ومشكلة التعبير الفني في بلاد العرب أنه، كما الحال مع كل الممارسات الحضارية، يتبع الموضات والصرعات والحملات الدعائية الإعلانية في بلدان الغرب. ففي الخمسينات من القرن الماضي، ومع الانتعاش في الغرب والشرق لمدرسة الفن لخدمة المجتمع والإنسان، وليس الفن للفن وشطحاته، رأينا نهضة في تعبيرات الفن الواقعي، في السينما والمسرح والغناء، ورأينا التصاقاً حميمياً بين التعبير الفني وبين روائع التعبير الأدبي والشعري.
  لكن مع انتكاسة الفكر السياسي من التوجهات الملتصقة بقوة بحاجات الجماهير المسحوقة في ثمانينات القرن الماضي، ومع الصعود المذهل لبلادات وانغلاقات الفكر السياسي اليميني النيولبرالي الملتصق بخدمة القلة الرأسمالية، وبهدف إنعاش أسواق المضاربة والمغامرات المالية المجنونة، وفي المدة الأخيرة بخدمة بارونات التواصل الإلكتروني التجاري والاجتماعي، عادت في الغرب مدرسة الفن لخدمة الابتذال والرغبات الحسية، وعادت معها، وتقليداً مستمراً لصرعاتها، مدرسة الفن المبتذل السطحي العربية في أغلب تعبيراتها السينمائية والمسرحية والغنائية.
  يستطيع الغرب الاستعماري، القوي المستقل الغني المهيمن على حضارة العالم كله، أن يتحمل كل تلك التقلبات، وقد بنى الكثير من المؤسسات القادرة على تصحيح تلك التقلبات وتعديل مساراتها الجنونية. لكن ماذا عن المجتمع العربي الممزق سياسياً، الضعيف اقتصادياً، المبتلى إلى أبعد الحدود اجتماعياً، المنهك بكثير من بقايا إرث التاريخ السلبي، الرازح تحت هيمنة أشكال من التدخلات الاستعمارية.
 ألا يحتاج هكذا مجتمع لفن يلهم نفوس شبابه وشاباته، ويسمو بها نحو المُثل والقيم، ويحفزها لتكون في قلب النضالات الوطنية والقومية والإنسانية؟ هل إن مدرسة الفن والأدب والشعر لخدمة الواقع وتغييره التي انتعشت في الخمسينات، ما عادت المجتمعات العربية الحالية، المبتلاة بكل سوءات الدنيا، تحتاج إليها، خصوصاً بعد هزال السياسة وغياب القيادات التاريخية الملهمة، وحلول التافهين مكانها؟
   ألا نحتاج إلى تلك المدارس التعبيرية التجييشية لتعوض مجتمعاتنا العربية عن إضاعتها المفجعة للسياسة التغييرية النظيفة المؤمنة بوحدة الأمة وتحررها وعدالة أنماط حياتها؟
 سؤال نوجهه في الأساس لشابات وشباب الأمة، إذ إنهم مسؤولون جزئياً عن قبول تلك الانعطافة التعبيرية الفنية البائسة.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"