عادي

ليبيا.. ألغام الانقسام والإرهاب

23:16 مساء
قراءة 4 دقائق

د. محمد فراج أبو النور*
الاشتباكات المسلحة التي شهدتها العاصمة الليبية طرابلس فجر السابع عشر من مايو/أيار الحالي، بعد ساعات قليلة من وصول رئيس الوزراء الشرعي، المكلف من البرلمان، فتحي الباشاغا وعدد من وزرائه إلى المدينة، كشفت بكل وضوح عن أن رئيس الوزراء المنتهية ولايته عبدالحميد الدبيبة، مستعد تماماً لإراقة الدماء في سبيل الاحتفاظ بسلطته، مستنداً في ذلك إلى الميليشيات الموالية له.

كان قرار الباشاغا بمغادرة العاصمة «حقناً للدماء» واتخاذ مدينة (سرت) مقراً لحكومته إلى أن تتغير الظروف الراهنة، كان قراراً صحيحاً، يحافظ على أرواح الليبيين، ويتيح للحكومة العمل في ظروف سليمة وبالتالي أكثر فاعلية بالتأكيد.

اللافت للنظر هو تلك البيانات التي صدرت عن عدد من الدول الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة، التي أعربت وزارة خارجيتها عن «القلق العميق» تجاه التقارير التي أشارت إلى وقوع اشتباكات في طرابلس، دون إشارة إلى الطرف البادئ باستخدام السلاح.. وهو نفس مضمون بياني السفارتين الأمريكية والبريطانية في العاصمة الليبية.

أما خالد المشري، رئيس «المجلس الأعلى للدولة» والذي كان طرفاً في الاتفاق على تولي الباشاغا رئاسة الحكومة- فقد ذهب إلى أبعد من ذلك، وصرح بأن حكومة الباشاغا هي «محل نزاع، ومحاولة دخولها طرابلس من دون توافق، هي محاولة لفرض أمر واقع مرفوض» وكأنه يمكن «التوافق» مع طرف يرفض الاعتراف بالشرعية البرلمانية أصلاً، ويحشد الميليشيات في العاصمة، ويتحدث عن انتخابات يعرف الجميع استحالة إجرائها.

تكريس الانقسام

والواقع أن تعامل الدول الغربية الكبرى والأمم المتحدة مع حكومة الدبيبة التي انتهت ولايتها، وفقدت ثقة البرلمان قبل ذلك، باعتبارها حكومة شرعية للبلاد، والدعوة إلى التركيز على إعداد قاعدة دستورية لإجراء الانتخابات، يعني ترك حكومة الدبيبة في السلطة دون سند شرعي لمدة لا تقل عن عام أو عام ونصف في أفضل الأحوال، ريثما يتم إجراء الانتخابات إذا قدر لها أن تجرى.

وإذا كان وجود حكومة باشاغا في سرت أفضل قطعاً من إراقة الدماء للسيطرة على العاصمة، فالأمر المؤكد أن وجود حكومتين في البلاد يكرس واقع الانقسام كما أن استطالة أمد وجود حكومة الدبيبة في السلطة يفتح الباب لاستفحال توجه الأخير للتحالف مع الفصائل الإرهابية الأكثر تطرفاً مثل «الجماعة الليبية المقاتلة» و«مجلس شورى مجاهدي درنة» وغيرهما من التشكيلات المنتمية إلى «القاعدة» و«داعش» التي بدأ زعماؤها يتوافدون مؤخراً على طرابلس ومدن الغرب الليبي ما يفاقم خطر انتشار الإرهاب مجدداً في البلاد، ويزيد من تكريس واقع الانقسام.

ومن ناحية أخرى فإن البرلمان الليبي يظهر قدراً واضحاً من التراخي تجاه مسألة بالغة الأهمية هي إقرار الموازنة العامة التي تقدمت بها حكومة الباشاغا في جلسة حضرها بعض عشرات من النواب، أقل بكثير من النصاب المطلوب لصحة الاجتماع، وتمت إحالتها إلى اللجنة المالية وسط إشارات إلى أن النواب المرتبطين ب«الإخوان» و«المجلس الأعلى للدولة الذي يسيطرون عليه، وأولئك الذين تمكن الدبيبة من استمالتهم، لن يحضروا اجتماعات البرلمان لمناقشته وإقرار الموازنة بالنصاب الضروري (مئة وعشرين نائباً) يمثلون ثلثي أعضاء البرلمان، الأمر الذي يلقي بكثير من الشكوك حول تمكين حكومة الباشاغا من ممارسة مهامها.

اجتماعات المسار الدستوري

وبينما يجري ذلك كله داخل البلاد، كانت القاهرة تشهد الجولة الثانية من اجتماعات لجنة المسار الدستوري الليبي، المكونة من اثنى عشر عضواً من النواب، ومثلهم من المجلس الأعلى للدولة (المجموع 24 عضواً) تحت قيادة ستيفاني وليامز مستشارة الأمين العام للأمم المتحدة، بهدف وضع مسودة لدستور مؤقت يفترض الاستفتاء عليه، لكي يمثل «قاعدة دستورية» للانتخابات الرئاسية والبرلمانية لدورة واحدة، على أن يقوم البرلمان الجديد بوضع دستور دائم للبلاد.

وقد تحدثت وليامز بقدر كبير من التفاؤل حول نتائج عمل اللجنة، وذكرت أنه تم الاتفاق ب«صورة أولية» على (137 مادة) من مسودة الدستور، وسيتم عند الاجتماع للجنة في شهر يونيو/حزيران المقبل لاستكمال بقية المواد، كما سيتم التوقيع على وثيقة بالتزام الأطراف بما يتم الاتفاق عليه في اجتماعات القاهرة؛ بحيث لا يتسبب أي طرف في تعطيل تنفيذ الاستفتاء على مسودة الدستور أو إجراء الانتخابات.

وعلى الرغم من نبرة التفاؤل الواضحة في حديث وليامز وآخرين، فإنه من الضروري لفت النظر إلى عدد من الملاحظات المهمة:

* أولاً: لم يتم نشر نصوص المواد التي تم الاتفاق عليها، فقد ذكرت وليامز أن التركيز كان على المواد الخاصة بالسلطتين التشريعية والقضائية.

وهنا لا بد من ملاحظة أن مناقشة البنود الخاصة بالسلطة التنفيذية لم تجر بعد، ومعروف أن العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية (أي سلطات كل من البرلمان والحكومة ورئاسة الدولة) هي محل خلاف عميق بين «الإخوان» المهيمنين على المجلس الأعلى من جهة والبرلمان من جهة أخرى.. و«الإخوان» يريدون جمهورية برلمانية بدور هامشي لرئيس الدولة، ودور حاسم للبرلمان، ورئيس الوزراء. بينما يريد البرلمان جمهورية رئاسية وهذه قضية بالغة الأهمية يمكن أن تنسف الاجتماعات.

* ثانياً: سبق أن تراجع ممثلو «الغرب» مراراً عن اتفاقاتهم، إما في إطار لعبة تقسيم الأدوار بين الأجنحة والأطراف، أو بسبب وجود أطراف أكثر تشدداً، مثلما حدث بشأن التعديل ال(12) للإعلان الدستوري، والتوافق على رئاسة الباشاغا للحكومة.. ثم تراجع «المجلس الأعلى للدولة» عن الاتفاق.

* ثالثاً: أن الاتفاق (بصفة أولية) شيء آخر.. والشيطان يمكن دائماً في التفاصيل.

* رابعاً: أن سيطرة الميليشيات الإرهابية على طرابلس ومدن المنطقة الغربية، وانضمام الإرهابيين الأكثر تطرفاً إليها مؤخراً «القاعدة» و«دواعش» يجعل من تنظيم الاستفتاء على الدستور المؤقت مسألة بالغة الصعوبة من الناحية الأمنية. بخلاف الاستفتاء ستكون هناك الانتخابات الرئاسية والبرلمانية.. ولا ترى أمريكا ولا ستيفاني وليامز في وجود الميليشيات والمرتزقة ولا هذه الكميات الهائلة من السلاح مشكلة يمكن أن تعوق الانتخابات، وهذا أمر يتنافى بصورة مطلقة مع المنطق السليم. والحقيقة أنه من دون وجود إرادة دولية وإقليمية حازمة لإخراج المرتزقة وحل الميليشيات ونزع سلاحها لا يمكن الحديث عن بنية أمنية وسياسية مناسبة لإجراء استفتاء جدي أو انتخابات حقيقية، ولهذا فإنه من الصعوبة مشاطرة وليامز تفاؤلها الكبير.

*كاتب مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"