للهبوط من أرجوحة بلا حبال

00:32 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. نسيم الخوري

كيف هطل مصطلح «المنظومة» على اللبنانيين فشغل إعلامهم وألسنتهم وعقولهم، قبيل الانتخابات البرلمانية، وخلالها، وبعدها، بشكل رهيب؟
 ظهرت في التنافر والخلافات والانهيارات السياسية والحزبية التي سبقت 17 أكتوبر/ تشرين الأوّل 2019 تاريخ «بريق» أو انطلاقة الحراك، أو الثورة في لبنان التي خبت، ولربّما أوصلت بضعة نوّاب إلى البرلمان. وبلغ التقاذف والاتهامات عنان السماء والآذان، العربية والعالمية، وهيئات الرقابة الدولية في فترة الانتخابات البرلمانية، لكنها تقوى وتشتدّ أكثر بكثير بعد تحوّل حكومة نجيب ميقاتي لتصريف الأعمال، وترقّب انتخاب رئيس مجلس النواب ومكتب المجلس، ثمّ تكليف رئيس جديد للحكومة وتأليف حكومة جديدة، وصولاً إلى انتخاب رئيس جديد للجمهورية التي لن يبقى على رأسها الجنرال ميشال عون دقيقة واحدة، حسبما رشح عن قصر بعبدا، أكثر من مرّة.
 ومع ذلك، لا مبالغة أبداً في أنّنا عاجزون عن فهم وتكرار كلمة المنظومة اللبنانية التي اجتاحت لبنان، ولا تزال، وبها أُلصقت كلّ الصفات البذيئة والكريهة، مع تجهيل الفاعلين عن الهدر والفساد والخرائب والانحطاط الذي وقع فيه لبنان. ويعود التجهيل للخوف الدفين من ذكر القيّمين على تلك المنظومة، بصيغة المفرد أو الجمع، الذين لطالما خلّفوا، ويخلّفون الرعب في قلوب المواطنين، إلى التبشير بالحروب الأهلية بعدما عصروا خيرات لبنان كبرتقالة في يد صبي جائع.
وللتوضيح:
* أوّلاً: «المنظومة» ترجمةً لمصطلح Système قوامها مجموعة من العناصر والأفكار المتفاعلة المنظّمة بمعانيها وأغراضها تصبّ في الأهداف الإيجابية والمشترك، لا بالسلبيات المتنافرة في خدمات الدولة والأحزاب والمسؤولين المعبّر عنها في لبنان بكونها منظومات، فبدا المصطلح خارج المنطق.
لماذا؟
* ثانياً: لأنّ المنظومة تعود لجمهورية أفلاطون الفاضلة تحقيقاً لرخاء شعوبها. ولآنّ أندريه أمبير ( 1775-1836) الفيزيائي والرياضي ومخترع التلغراف الكهربائي أوّل من استعملها منسّقاً العلوم وإنجاحها في مقولات السلطة والحكومة. وبانت المنظومة في ال1948 ثمرة لقاء سبيرنطيقي بين أستاذ الرياضيات «نوربير وينر»، و«ورين كيلّوش»، عبر مجتمعات الحشرات والحيوانات ودراسة مجالات تواصلها لتطبيقها في الإلكترونيات التي أوصلتنا للإنسان الآلي المُدار الكترونياً اليوم. وأصبحت تعني المنظومة «الأتمتة»، Automatisation إذ امتزجت الآلة بالإنسان والمادة بالفكر والطبيعي بالاصطناعي فصارت أجيال الكومبيوتر تملأ دنيانا.
* ثالثاً: المنظومات طبيعية كالمنظومة الشمسية لها قوانينها وعلاقاتها وعوالمها، وحيّة مثل المخلوقات، تتعاضد أعضاؤها للنمو والبقاء، وتتقدّم قفران النحل كمثال طبيعي للمنظومات، فتتقدّم الغريزة في العطاء كمثال. هناك منظومات مركّبة كالمؤسسات والدول، منفردة أو مجتمعة، لكنها شديدة التعقيد في عصر الانفتاح التواصلي الراهن.
* رابعاً: يفترض «السيستم»، لانهائية الأنظمة والحالات والعلاقات والأهداف المشتركة التي تتغيّر بتغيّر عنصر واحد منها إذ يختلّ النظام العام.
 وعندما اجتاح المصطلح لبنان تقاذفوه بتلفظه الأجنبي «سيستم» تحقيقاً للتشاوف والخلط الدارج بين العربي والمعرّب، فسقط بصفته كلمة أو عبارة أو لفظة يبريها اللسان والزمان وتصقلها التجارب قبل أن تصبح مفهوماً علمياً دقيقاً محدّداً، وأمثالاً وحكماً نسميّها الكلمات الذهبية لكنها بدت قذائف في لبنان وتجاه الآخرين سالخة المصطلح مشوّهاً من رحمه.
* خامساً: ليس أجدر من اللغة في تحقيق «السيستم» حيث لانهائيّة المواقع والأنظمة والحالات عند الكلام والاتصال. وعندما يأخذ المستقلّ الحرّ موقع الفاعل يتمكن من إسقاط نفسه على الحاضر. في المقابل يبدو الفرد التابع مقيّداً ربّما يكتشف قواعد اللعبة في المنظومة وقوانينها، فينمو ويؤثر ويتطور فيها ويستند إلى الجدليّة الضيقة الخالية من المنطق البنّاء أي يصبح بالكلام والانقياد ويعمل لكي يصبح ويصل.
 لبنان الآن ساحة، بل مشرحة دمّرت العلوم السياسية والألسنة والعقول وخلطت المفاهيم بالمصطلحات بالصفات المرتجلة والمستوردة من دون إدراك لمعانيها ووظائفها لتطغى مشاهد الطائفيات المشحونة مجدداً بترسيخ المنظومات القذرة من دون أي تفكير أو تفكيك سياسي واجتماعي. إنّه واقع تضجّ به المقاهي والساحات والشاشات، وهو نتاج مجموعات من المجموعات التي يكرهها لبنان الغد. المنظومة ميادين خارج كلّ الضوابط، سياسية وطائفية ومذهبية، ولها جذورها تتغذّى من الخارج وتتحكّم في سلوك الأفراد والجماعات ومستقبلها، من دون التماس العلوم والمناهج التاريخية والاجتماعية والنفسية، والمقابلات والمقارنات والإحصاءات.
 قصدت المقاربة المنهجيّة السريعة للمنظومات في لبنان التي تبنّاها الإعلام الذي هو منظومة يُساق إليها اللبنانيون ويتفاعلون معها ليجدوا أنفسهم وعائلاتهم في منظوماتٍ لا تحدّ، ولا تُعدّ، تظهر بمواقفهم وعصبياتهم وردود أفعالهم. لن أقتنع قطّ معهم بأنّ لبنان فاصلة غير ظاهرة في المنظومات الدولية الدقيقة والمتناغمة، لأن كشف الأغطية عن المتغيرات الآتية عبر خلافاتهم ومستقبل وطنهم، تجعلنا قادة جدداً للحوار والتواضع كي لا يصبح التخريف والتخويف والتحريف علماً، أي يصبح الوطن أرجوحةً من دون حبال.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"