د. يوسف مكي
حدثان رئيسيان جديران بالتوقف عندهما، أخذا مكانهما هذا الأسبوع. الأول هو المناورات المشتركة بين سلاحي الجو في روسيا والصين، فوق بحر اليابان، شملا استخدام قاذفات نووية متطورة. وقد اعتبر ذلك نقلة تحول نوعي في التعاون العسكري، بين البلدين، وتهديداً مباشراً لليابان. أما الحدث الآخر، فهو استخدام حق النقض من قبل الوفدين الصيني والروسي، لقرار صادر عن مجلس الأمن الدولي، يفرض عقوبات على كوريا الشمالية، بسبب مناوراتها المستمرة، والتي شملت صواريخ بالستية بعيدة المدى قادرة على حمل رؤوس نووية.
وعلى الرغم من أن وفدي الصين وروسيا عللا استخدامهما لحق النقض، تجاه قرار مجلس الأمن الدولي، بأسباب إنسانية، منها انتشار وباء كورونا، وتداعيات الحرب بأوكرانيا، على الاقتصاد الدولي، لكن استعار الصراع بين روسيا والغرب، بسبب الحرب على أوكرانيا، وتطورات الأزمة السياسية، بين أمريكا والصين، والتهديد الأمريكي، لها حال قيامها، بمهاجمة تايوان، يجعل من الصعب، القبول، بأن استخدام حق النقض كان لأسباب إنسانية، دون أخذ العوامل الأخرى بعين الاعتبار.
وقد جاءت هذه الأحداث، في وقت تصاعدت فيه التصريحات العدائية المتبادلة بين إدارة بايدن والحكومة الصينية. وبلغت حداً غير مسبوق، إثر تهديد بايدن باستخدام القوة العسكرية، لمنع الصين الشعبية من استعادة تايوان، بما استدعى رداً صينياً مماثلاً، حمل نبرة السخرية من قوة أمريكا العسكرية، واتهمها بالخطأ في حساباتها.
والواقع أن الصراع بين أمريكا والصين، حول تايوان، ليس حديث العهد؛ بل تعود جذوره، إلى عقود طويلة. فإثر نهاية الحرب العالمية الثانية، بدأ الانقسام واضحاً بين الشرق والغرب، وكانت تلك مقدمات الحرب الباردة. وكان من الطبيعي أن تنهار الجبهة التي جمعت الشيوعيين، المناصرين للتجربة السوفييتية، وبين الكومينتانغ حليف الغرب، التي كانت قائمة ضد التوسع الياباني. وإثر ذلك مباشرة، بدأت المواجهة العسكرية بين الطرفين. وكان التفوق واضحاً، لصالح الحزب الشيوعي، وقائده ماوتسي تونغ، الذي تمكن من طرد قوات الكومينتانغ من البر الصيني، وأعلن قيام الصين الشعبية، فيما اتجه شان كاي شك، وقواته إلى تايوان، وأسس ما بات معروفاً، حتى يومنا هذا بالصين الوطنية.
لم يعترف الغرب، بالحكومة التي تأسست بالبر الصيني، بقيادة الحزب الشيوعي. واعتبر حكومة الصين الوطنية، الممثل الشرعي لعموم الصين. واحتفظت حكومة شان كاي شك، بالمقعد الدائم للصين في مجلس الأمن الدولي، حتى عام 1971، حين أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة، في دورتها السادسة والعشرين، القرار رقم 2758 الذي نص على إعادة كافة الحقوق المشروعة لجمهورية الصين الشعبية، في الأمم المتحدة، والاعتراف بممثل حكومتها باعتباره الممثل الشرعي والوحيد للصين بكافة مؤسسات الأمم المتحدة.
وقد جاء هذا الاعتراف، بعد زيارة هنري كيسنجر، مستشار الأمن القومي للرئيس الأمريكي نكسون، ووزير خارجيته فيما بعد، للصين الشعبية، في نهاية الستينات؛ حيث التقى بالزعيم الصيني ماوتسي تونغ. وذكرت التحليلات في حينه، أن هدف عودة العلاقات الأمريكية مع الصين الشعبية، هو توسيع شقة الصراع العقائدي، الدائر آنذاك بين الاتحاد السوفييتي والصين الشعبية، كمقدمة لتفتيت المعسكر الاشتراكي.
لم تعترف الصين الشعبية مطلقاً، بالوضع القائم في تايوان، وظلت تطالب بعودة الجزيرة إلى أراضيها. لكن الإدارات الأمريكية المتعاقبة، بقيت متمسكة بتأييدها لتايوان. وقد بلغت المواجهة بين أمريكا والصين، ذروتها، حين قررت إدارة الرئيس كلينتون، تزويد الصين بطائرات عسكرية متطورة، فوجهت الصين إنذاراً للولايات المتحدة، بالتراجع عن قرارها، لأن ذلك سيضطرها للتدخل العسكري المباشر، واستعادة تايوان. وقد تراجعت الولايات المتحدة، أمام الضغط الصيني، عن تعهداتها بتزويد تايوان بمعدات عسكرية متطورة.
الوضع بين الصين وأمريكا، يشبه إلى حد كبير، السجال الذي دار بين روسيا وأمريكا، قبيل العملية العسكرية الخاصة التي أطلقتها روسيا، في الأراضي الأوكرانية. إن ذلك يعيد الخشية من تكرار المشهد العسكري، لكن هذه المرة، سيكون عملاً عسكرياً صينياً لاستعادة تايوان، بطريقة خاطفة.
وإذا ما تمكن التنين الصيني من تحقيق هدفه، وضم تايوان له فنحن أمام تغير كبير، وهائل في السياسة الدولية؛ حيث سيسجل نصراً عسكرياً لروسيا في أوكرانيا، ونصراً عسكرياً آخر لحليفتها الصين، بما يجعل الغرب في وضع لا يحسد عليه، ويضع مسماراً قوياً ومتيناً، في نعش النظام العالمي الذي ساد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. لكن انبثاق نظام دولي جديد، يبدو بعيد المنال، لأن ذلك رهناً بتسويات تاريخية تقبل بها مختلف الأطراف الفاعلة في صناعة القرار الدولي، وهو ما لا تلوح ملامحه حالياً في الأفق.
[email protected]