هل رفع الفائدة يعالج التضخم حقّاً؟

22:27 مساء
قراءة 4 دقائق

د. جاسم المناعي *
يثار الجدل حالياً حول مدى جدوى رفع أسعار الفائدة في معالجة التضخم. ويستند مثل هذا الجدل إلى اعتبارات عدة، منها الحالات التي لا يرجع فيها التضخم إلى قوة الطلب وسخونة الاقتصاد، بل يكون التضخم ناتج عن نقص في جانب العرض من الاقتصاد كتعثر في سلاسل الإمداد، ونقص في توفر المواد الخام، أو موارد الطاقة. طبعاً هناك أيضاً حالات الدول المرتبطة عملاتها بالدولار والتي ترتفع فيها أسعار الفائدة لمجرد رفعها على الدولار، في الوقت الذي لا تعاني فيه هذه الدول لا من تضخم نتيجة لسخونة الاقتصاد، ولا من تضخم هام نتيجة لنقص العرض المتمثل في تعثر سلاسل الإمدادات، وشحّة توفر المواد الخام وموارد الطاقة. ولكي نتفهم أكثر طبيعة هذا الجدل الدائر حول هذه الحالات، لا بد من أن نتطرق بإسهاب أكثر حول هذه الأمور، ولنبدأ بالحالة الأولى والأساسية في علاقة رفع سعر الفائدة بمعالجة ظاهرة التضخم.
في هذه الحالة نجد أن معدلات النمو مرتفعة، وسوق العمل يقترب مما يعرف في الاقتصاد بمرحلة التشغيل الكامل، أي معدلات البطالة تكون في أدنى مستوياتها، ما يبرر رفع مستوى الرواتب والأجور، أي أن الاقتصاد يعمل بكامل طاقته مع توفر سيولة كبيرة تنعكس في شكل إنفاق مرتفع من قبل المؤسسات والأفراد، الأمر الذي يؤدي إلى اختناقات وارتفاعات كبيرة للأسعار، وهذا ما حدث في كل من أمريكا وبريطانيا وكندا، ودول أخرى، حتى قبل نشوب حرب أوكرانيا.
وترجع الأسباب الرئيسية لارتفاع الأسعار وتفشي التضخم في هذه الحالة إلى كل من السياسة النقدية التي أبقت على أسعار فائدة متدنية لفترة طويلة، واتباعها بما يعرف بالتيسير الكمي الذي تشتري من خلاله البنوك المركزية سندات الحكومة لكي تضخ في مقابلها أموالاً وسيولة كبيرة في الأسواق. ومن ناحية أخرى، ولمساعدة الأنشطة الاقتصادية التي تضررت من جراء جائحة كورونا، فقد تبنت السياسات المالية برامج إنفاق على درجة كبيرة من السخاء، الأمر الذي زاد من حجم السيولة المتوفرة في الأسواق، وزاد من قوة الطلب على المنتجات والخدمات، ما انعكس في شكل مزيد من ارتفاعات الأسعار وتفاقم ظاهرة التضخم. وهذه الحالة تمثل في الواقع المبرر الرئيسي لرفع سعر الفائدة في معالجة التضخم والتخفيف من سخونة الاقتصاد.
لكن ماذا عن الحالات الأخرى التي قد لا يكون فيها رفع سعر الفائدة هو بالضرورة الحل الأمثل لمشكلة التضخم؟ إن أهم هذه الحالات هي الحالة التي يكون فيها التضخم ليس ناتجاً عن قوة الطلب وسخونة الاقتصاد، بقدر ما يكون ناتجاً في أغلب الأحيان عن عوامل تتعلق بوجود اختناقات في جانب العرض من الاقتصاد، كتعثر في سلاسل ألأمداد، أو نقص في توفر بعض عناصر الإنتاج، أو بسبب صعوبات لوجستية تحد من وصول المواد الغذائية الرئيسية، أو لأسباب سياسية تؤثر في مدى توفر موارد الطاقة بالشكل المطلوب. كل هذه العوامل والاسباب من شأنها خلق حالة من شحّة في عرض وتوفر المواد والمنتجات الأمر الذي ينعكس في شكل ارتفاع أسعارها، وبالتالي تزايد مستويات التضخم.
 وعلى الصعيد العالمي، تعتبر حرب أوكرانيا حالياً، سبباً رئيسياً لمثل هذه الأوضاع، وفي مثل هذه الظروف فإن رفع سعر الفائدة قد لا يجدي نفعاً في معالجة التضخم.
 يبقى أن نشير إلى حالة أخرى تخص دول المنطقة والتي ترتفع فيها أسعار الفائدة من دون أن تعاني هذه الدول بالضرورة من تضخم كبير، لا هو ناتج عن قوة الطلب وسخونة الاقتصاد، ولا هو ناتج عن اختناقات في جانب العرض من اقتصادات هذه الدول. وإن رفع سعر الفائدة في دول المنطقة ليس، إذاً، بسبب التضخم بقدر ما هو راجع إلى ارتباط عملات أغلبية هذه الدول بالدولار الأمريكي، الأمر الذي يحتم رفع الفائدة في هذه الدول كلما ارتفعت أسعار الفائدة على الدولار، وذلك للتأكد من استقرار أسعار الصرف وضمان استقرار نشاط الاستثمار وحركة رؤوس الأموال.
إذاً، لدينا على الأقل ثلاث حالات، والتي ليست جميعها تمثل علاقة وثيقة بين رفع سعر الفائدة ومعالجة التضخم. وحتى الحالة الأولى التي تبرر رفع سعر الفائدة يبدو فيها التضخم الآن وعلى إثر تداعيات حرب أوكرانيا، راجع في جزء هام منه إلى اختناقات العرض من الاقتصاد، وليس بالضرورة نتيجة قوة الطلب وسخونة الاقتصاد، الأمر الذي لا يبرر الإصرار على التركيز في رفع سعر الفائدة لمعالجة التضخم، وهذا حسبما يبدو ما أدركه البنك المركزي الأمريكي مؤخراً، حيث أشار في اجتماعه الأخير إلى أنه قد يتمهل، أو قد لا يستمر في رفع سعر الفائدة، بدءاً من شهر سبتمبر/ أيلول المقبل، خاصة أن بعض مؤشرات الاقتصاد الأمريكي بدأت تشير إلى بعض الانكماش. لذلك نعتقد أن رفع سعر الفائدة قد يكون مطلوباً في بعض حالات التضخم، إلا إنه، كما يبدو، ليس هو بالضرورة الحل الذي يصلح لكل زمان ومكان.
* الرئيس السابق لصندوق النقد العربي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​المدير العام رئيس مجلس إدارة صندوق النقد العربي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"