مستقبل البحث العلمي العربي

00:29 صباحا
قراءة 4 دقائق

د. مصطفى الفقي

أشعر بغصة كلما تابعت أخبار التقدم الهائل في فروع التكنولوجيا المختلفة والنجاحات الباهرة في ميدان التقدم العلمي والإنجازات المذهلة في ميادين البحث الأكاديمي، والتي تقدم كل يوم جديداً وتطرح على البشرية تحولاتٍ تؤدي إلى نقلات نوعية لم يكن يتوقعها أكثر العلماء تفاؤلاً، في وقت يعاني فيه ذلك الكوكب الذي نعيش عليه أعراض الهرم والشيخوخة الناجمة عن سوء الاستغلال بعد ملايين السنين من بدء الخليقة.
 وإذا نظرنا إلى العالم العربي فسوف نكتشف مباشرة أن البحث العلمي يضعه في نهاية الركب، لأننا على الرغم مما نملكه من ثروات طبيعية وبشرية لم نتمكن من توظيف ذلك كله ليصبح إسهاماً في حضارة العصر وبناء الإنسان فوق الأرض التي تكاد تحتضر من فرط الإساءة إليها والعدوان عليها. إننا بحاجة حقيقية إلى وقفة أمينة ومراجعة موضوعية للدور العربي في البحث العلمي في مختلف المجالات وعلى كل الصعد التي تجعلنا دائماً نشعر بمساحة التخلف لدى أمة كان يفترض أن تكون خير أمة أخرجت للناس، والأمر في ظني يدور حول عدد من المحاور أبرزها:
 *أولاً: يقدم التعليم الخامات البشرية التي يمكن استثمارها في البحث العلمي وكأن العملية التعليمية هي صناعة القماش الذي يجري تفصيل الملابس المطلوبة منه ونعني بالملابس هنا أدوات البحث العلمي وأساليبه الجديدة التي تسمح بالحصول على التقنيات الحديثة في كل فروع العلم ومختلف تخصصاته، فالفضول يعني في هذه الحالة الرغبة الكامنة لاستكشاف الكون والبحث في طبيعة الحياة والحكم على مصداقية التحليلات المعاصرة. ولا شك أن ما يتصل بالعلوم هو أمر حيوي باعتبار أن دراستها أمر يستحق التشجيع والاهتمام في بلادنا.
 *ثانياً: إن المناخ الثقافي السائد والبيئة الفكرية المحيطة عاملان رئيسيان لتشكيل هوية كل أمة وقدرتها على هضم المعارف الحديثة والعلوم الجديدة، فأنا أنتمي إلى جيل كان يحفظ جدول الضرب بينما الدنيا تغيرت تغييراً كبيراً وبدأنا ندخل عصر تقنيات لم تكن حتى متاحة في الخيال؛ حيث جرى اختصار المسافات وحدث الانتقال السريع للمعلومات وأصبحنا أمام عصر لا يختلف اثنان أنه يبدو امتداداً لأفلام الخيال العلمي؛ حيث تطبيقات الذكاء الاصطناعي وميلاد الكائن الجديد المسمى «بالروبوت»، فأصبح من المتعين علينا أن نعيد النظر في كل ما نعمل عليه وفقاً لتلك المعطيات الجديدة التي قلبت أفكارنا رأساً على عقب وأثبتت أن التكنولوجيا الحديثة هي قاطرة التطور في هذا العصر، وإذا كنا نعاني مخاوف مستبدة ترتبط بالأوبئة على المدى القصير والحروب الكبرى على المدى المتوقع والآثار السلبية لتغير المناخ على المدى الطويل، فإن ذلك كله يجعل الاهتمام بالبحث العلمي فريضة واجبة على كل عربي، وهل تفوقت إسرائيل علينا - ولو إلى حين - إلا بالتقدم العلمي والتكنولوجي والأبحاث الجديدة في كافة فروع المعرفة؟
 *ثالثاً: لابد أن نصارح أنفسنا في عالمنا العربي فيما يتعلق بكيفية استخدام كل قطر من أقطار الأمة لموارده الذاتية الطبيعية والبشرية، وهل أحسن استخدامها ونجح في توظيفها أم أن الأمر يختلف عن ذلك؟ خصوصاً أننا متهمون بإهدارنا أحياناً للثروات وجهلنا أحياناً أخرى بقيمة تلك الثروات، لكن يبقى العقل العربي هو المعيار الحاكم عند تأمل المشهد كاملاً مهما كانت الظروف الدولية أو التعقيدات الإقليمية.
 *رابعاً: إن المخاطر التي تتهدد كوكب الأرض أكثر من أن تحصى وأكبر من أن توصف فنحن مهددون بنحر الشواطئ وتحول اليابسة في بعض المناطق إلى مستنقعات مائية، فضلاً عن زحف التصحر على الوديان الخصبة مثلما هو الأمر في بعض المناطق الإفريقية ومجرى الرافدين في العراق ودلتا النيل في مصر؛ بل إن هناك حديثاً مبدئياً عن المخاطر التي تتهدد دولة مثل جزر المالديف وربما اليابان أيضاً، فضلاً عن بقاعٍ أخرى حول خريطة العالم الحالية، لذلك فإن الجدية واجبة في التعامل مع هذا الخطر الداهم الذي نجم عن ارتفاع درجة حرارة الأرض وأدى إلى بروز ظاهرة الاحتباس الحراري ما زاد من المخاوف وأرسى العديد من أسباب القلق حتى أن مؤتمراً عالمياً سوف يعقد دورته القادمة في مدينة شرم الشيخ المصرية خريف هذا العام لتداول الآراء العلمية والسياسية حول ذلك الخطر الداهم.
 *خامساً: إننا ندعو القادة العرب صراحة إلى تخصيص قمة عربية قادمة للبحث في الخطر البيولوجي الذي كاد أن يحل مكان الخطر الأيديولوجي الذي عرفناه في العقود السابقة، فالكائنات والأحياء مهددة بالفناء وسوف يؤدي ذلك إلى خلل واضح في التوازن البشري على الأرض، وإن قمة عربية مدروسة ومعتمدة على أبحاث موثقة سوف تكون قادرة بلا شك على فتح الأبواب والنوافذ من أجل أمة تبحث عن مستقبلها وتخاف على مصير أجيالها القادمة.
.. هذا طواف سريع لواقع التحديات التي نواجهها والأساليب التي نطالب باعتمادها وطرق العلاج المنتظرة لها، إنه عالم عجيب ومستقبل صعب.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"