لا يمكن إغفال حقيقة أن العقوبات المفروضة على روسيا بسبب الحرب في أوكرانيا من الشدة والقسوة بما يجعلها تضر بشدة بالاقتصاد الروسي؛ بل إنها بدأت بالفعل تضر بالاقتصاد العالمي كله، على الرغم من أن الاقتصاد الروسي ليس بالحجم الكبير المؤثّر عالمياً. ومع أن الحديث الأكثر بروزاً هو عن ارتفاع أسعار الطاقة بسبب الحرب في أوكرانيا، فذلك ليس بالضرر المهم، وإنما الضرر الحقيقي عالمياً هو ما يتعلق بأسعار الغذاء، بسبب ارتفاع أسعار الحبوب والأسمدة.
بالنسبة للطاقة، والنفط تحديداً، لا يوجد نقص في المعروض العالمي في مقابل معدلات الطلب الحالية. وإذا كان بعض المضاربين في أسواق العقود الآجلة للنفط يرفعون الأسعار تحسباً لنقص المعروض في حال مقاطعة النفط الروسي، فإن أساسيات السوق لا تعكس هذا العامل النفسي. أما ارتفاع أسعار المشتقات، خاصة الوقود في محطات البنزين، فسببه إلى حد كبير، اختناقات التكرير وكمية الضرائب والرسوم الحكومية على المشتقات؛ لذا لن يغيّر تحالف «أوبك+» بقيادة السعودية وروسيا، من معدلات الإنتاج كثيراً على الرغم من الضغوط الأمريكية والغربية. فحتى إذا خفّضت أوروبا وارداتها من النفط الروسي، فإن موسكو بدأت بالفعل، زيادة صادراتها بأسعار مخفضة لدول مثل الصين والهند. وبالتالي فالاحتمال الأرجح أن تظل معادلة العرض والطلب متوازنة.
وإنما الهم الأساسي هو أسعار الغذاء الذي تتوقع منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو)، أن ترتفع بأكثر من 40% في المتوسط. والواقع أن أسعار القمح تحديداً ارتفعت فعلاً بهذا القدر تقريباً، وقد يصل الارتفاع إلى أكثر من ذلك في نهاية العام، وذلك ما جعل الغرب يطالب روسيا بممرات آمنة في البحر الأسود لعودة صادرات القمح. واستجاب الغرب مضطراً لمطالب موسكو، بالضبط، كما استجاب الاتحاد الأوروبي لمطالب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بدفع ثمن الغاز الطبيعي بالعملة الروسية، الروبل، وليس باليورو أو الدولار.
ليس المقصود فقط، تسهيل صادرات القمح الأوكرانية، فتلك لا تصل إلى ثمانية في المئة من صادرات القمح العالمية؛ بل الهدف هو عدم توقف صادرات القمح الروسية التي تمثّل ما يقارب ثمانية عشر في المئة من الصادرات العالمية. فروسيا هي أكبر مصدّر للقمح في العالم، وصدرت في العام الماضي قمحاً بما يزيد على ثمانية مليارات دولار. ومع ارتفاع أسعار القمح بنحو النصف حالياً، يتوقع أن تتضاعف عائدات روسيا من صادرات القمح هذا العام ما يجعلها في وضع أفضل. أيضاً فإن محصول هذا الموسم في الدول المصدّرة للقمح مثل الولايات المتحدة وفرنسا، قد لا يكون جيداً بسبب موجة الحرارة والجفاف.
الرئيس الروسي يعتبر الغرب مسؤولاً عن أزمة الغذاء العالمية وليس روسيا. ولدى بوتين حجة منطقية، فالعقوبات الأمريكية والغربية على بلاده، هي السبب وراء هذا الارتفاع الهائل في الأسعار وليس معادلة العرض والطلب الحقيقية. ففي النهاية تريد روسيا تصدير فائض القمح والسماد لديها، لكن العقوبات هي التي تعرقل استيراد دول الغرب لتلك المنتجات. وهذا ما يجعل أمريكا وحلفاءها الغربيين في وضع حرج، فالمواطن في الدول الغربية بدأ يتشكك في جدية شعارات السياسيين بأن بوتين هو المسؤول عن ارتفاع كلفة احتياجاتهم الأساسية.
في المقابل ليس الوضع في روسيا في غاية السوء، كما يصوّره الإعلام الغربي، على الرغم من الضرر الشديد الذي تسببه العقوبات. ففي أحدث بيانات بنك روسيا المركزي التي تغطّي الفترة من شهر يناير إلى شهر أبريل (أي تتضمن الأسابيع الأولى من الحرب والعقوبات)، نجد أن فائض الحساب الجاري لروسيا قفز إلى أعلى مستوى له على الإطلاق عند 96 مليار دولار؛ أي بزيادة بما يقرب من أربعة أضعاف على الفترة نفسها من العام الماضي. وبلغ الرصيد الإجمالي الروسي للسلع والخدمات 106 مليارات دولار؛ أي نحو ثلاثة أضعاف العام الماضي. ويتوقع أن يصل فائض الحساب الجاري الروسي إلى 250 مليار دولار. ويساوي ذلك تقريباً، ما جمّدته أمريكا ودول الغرب من الاحتياطي الأجنبي للبنك المركزي الروسي في الخارج.
لا عجب أن يخرج الرئيس بوتين من هذه الحرب إذا انتهت وهو في السلطة وهو «ملك القمح» العالمي، وهذا ما يجعل بعض كبار مستوردي القمح وفي مقدمتهم دول في منطقتنا يسعون إلى استيراد القمح الروسي بأسعار تفضيلية.
[email protected]