التنسيق العربي والغياب غير المبـرّر

00:02 صباحا
قراءة 3 دقائق

يعجّ العالم بأزمات لا محدودة سيكون لها تأثير وفاعلية قويّان خلال العقود القادمة في ما يتعلّق بالاستقرار العالمي وبمستقبل التنمية والازدهار، خاصّة في الوطن العربي المتأرجح منذ عقود بين أزمات متعدّدة.
في هذا السياق العالمي الذي تتدافع فيه القوى العالمية من أجل إعادة ترسيم حدود السيطرة والنفوذ، يبدو العرب غائبين عن المشهد برغم كل الأوراق التي يمتلكونها ليكونوا عنصراً فاعلاً في ترتيبات المشهد العالمي المستقبلي. وهذا الغياب ليس له أي مبرر لأنّ التكتلات العالمية تتحرّك ضمن أطر إقليمية باتت شديدة الوضوح، فيما يراقب العرب كل ما يحدث من دون أي تحرّك جماعي، أو بمبادرات فردية لا يمكن لها أن تكون كافية لجعل الموقف العربي محدداً في المشهد الجديد.
منذ قمة تونس سنة 2019، لم يستطع العرب أن ينظّموا قمة واحدة يتبادلون فيها الآراء حول مستقبل منطقتهم. وإذا كان العذر هو وباء كورونا، الذي منع الاجتماعات الحضورية، فإنّ الأوروبيين اجتمعوا عن بعد عشرات المرات خلال السنوات الثلاث الماضية، ولم يتعطل التنسيق بينهم، وسرعان ما عادوا للاجتماعات الحضورية بعد أن خف الخطر الوبائي. والصين استدعت أكثر من قمة إلى أراضيها ضمن مشروعها العالمي الطريق والحزام. وكذلك فعلت منظمات مثل الأمم المتحدة والناتو ودول جوار روسيا التي اجتمعت منذ أيام لتنسيق الجهود الأمنية بينها استعداداً للمخاطر التي تحدق بدول الاتحاد الروسي.
القمّة العربيّة برغم أن قراراتها لم تكن ذات تأثير فاعل في حل القضايا العربيّة المستعصية، إلاّ أنّها حافظت على الحدّ الأدنى المشترك من التنسيق العربي. واليوم هناك قضايا تستدعي أكثر من أي وقت مضى تنسيقاً عربياً واسعاً. فتداعيات جائحة كورونا والحرب الروسية في أوكرانيا، والملف النووي الإيراني والخطر الإسرائيلي المتفاقم الذي لن يكتفي بالسيطرة على القدس، هناك الملفات الليبية والسورية واليمنيّة، وأخيراً هناك الصراع الصيني- الأمريكي الذي لن يتأخر انفجاره على وقع احتدام الاختلافات بين البلدين وبلوغ المنافسة الاقتصادية ذروتها. فأين العرب من كل هذه الملفات؟
إن الخطر المحدق في المدى القريب هو الحديث المتزايد عن المجاعة القادمة التي تسببت فيها الأزمة الأوكرانية. فالأوروبيون وبعد إقرارهم العقوبات على روسيا، عادوا سريعاً لفتح أبواب التفاوض معها من أجل إيجاد حلول لاستمرارية إمدادات الحبوب عبر البحر الأسود. وملف الطاقة وعلى رأسها الغاز، بات يمثّل كنزاً عظيماً للدول المنتجة، لكنه يهدّد بانهيار العديد من الدول التي لم تعد قادرة على تحمّل الأسعار المتداولة عالمياً.
إن هذه القضايا وغيرها كثير يستوجب الحد الأدنى المشترك من تبادل الآراء -حتّى في ظلّ خلافات حادّة، لبلورة موقف موحّد يستطيع من خلاله العرب أن يقدّموا تصورات ورؤى تكون حاسمة في ملفات المنطقة.
إن هذا التشرذم العربي والغياب القاتل عن جلّ الملفات الإقليمية والدولية، لن يستفيد منه أحد وإن كانت الاستفادة ظرفية، فإنّ العرب سيكونون الكعكة التي ستعمل القوى الدولية على تقاسمها مجدداً مثلما فعلت واتفقت في بدايات القرن العشرين. العالم يتغيّر وماريوبول هي ستالينغراد الحادي والعشرين. والعرب يجب ألاّ يفوتوا على أنفسهم فرصة التحرر من الإرث الاستعماري الذي ظل مخيماً على الوطن العربي منذ منتصف القرن العشرين وحتى العقدين الأوليين من القرن الحادي والعشرين.
ربما يتفق العرب أخيراً على تثبيت موعد قمة الجزائر في غرّة تشرين الثاني (نوفمبر) القادم وهو تاريخ انطلاق الثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي. وربما تكون رمزيّة التاريخ مجدية فعلاً، في اتخاذ قرارات مصيريّة بعد أن تكون الحرب في أوكرانيا قد أفضت إلى ما رسمته القوى الجديدة الصاعدة في عالمنا الراهن.
مضى كثير من الوقت والمصالح العربية ظلت بأيدي الغير، فهل حان الوقت لاستعادتها وللانخراط الفاعل والمجدي في هذه التحولات الجذرية التي يشهدها عالمنا.
إنّ البقاء ضمن أفق الخلافات العربية والتدافعات البينية أثبت أنه لن يجدي نفعاً في عالم سيكون معتمداً على الأقوياء. وحيث لا مكان فيه للضعفاء. للعرب أوراق كثيرة، والعالم الجديد سيكون أقلّ نهباً واستعماراً وعدوانية، وهذه فرصة أخرى للتحرّر.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب صحفي وباحث في قسم الحضارة بجامعة تونس

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"