عادي
قناديل أماراتية

محمد المر.. الأديب نبت المكان

02:22 صباحا
قراءة 4 دقائق
  • تكوين موسوعي وتذوق أصيل للموسيقى والفن التشكيلي

يوسف أبولوز

في هذه الزاوية، نحتفي بمجموعة من أبرز مبدعينا الذين قدموا لمسات أدبية جمالية وإمتاعية، أثرت الوجدان، وارتقت بذائقة القراء، منحونا زاداً عبّر عن إنجازات الوطن وتحولات المجتمع وهموم البشر، كانوا ذاكرتنا التي تؤرخ للمكان ومدونتنا التي عبرت بصدق وإخلاص عن آمالنا وأحلامنا، هم قناديلنا التي نسترشد بها في دروب الحياة.

«معظم أعمال الإبداع القصصي والروائي لا بد أن تغرف من ذاكرة الكاتب، التي تشكّل في معظم الأحيان، جزءاً لا يتجزأ من الذاكرة الجماعية لشعب من الشعوب، بكل مكوّناتها الاجتماعية والفكرية والأسطورية».

ربما كانت هذه الفقرة المفتاحية المأخوذة من حوار أجراه الصحفي والمترجم كامل يوسف حسين مع محمد المرّ في مجلة العربي، عدد ديسمبر 1997، هي الأمثل من حيث المدخل إلى عوالم هذا الكاتب الذي يدور أدبه القصصي حول محور مكاني مرئي تماماً هو حيّ «الشندغة» في دبي؛ حيث وُلِدَ في العام 1955، في عائلة مملوءة بالنساء كما قال: «فهنالك والدتي وثلاث أخوات، وعمّة واحدة، وعدد من الخالات»، وربما استناداً إلى تلك البيئة الطفولية الدبوية ندرك جيداً سرّ تلك السردية الأمومية، إن أمكن القول، عند محمد المرّ وهو يصف الأمكنة والناس والحياة بواقعية مباشرة منسوجة بثقافة اللغة وانسيابها الحميم ليس في القصة القصيرة عنده فحسب؛ بل وأيضاً في مجمل - خريطته الكتابية التي بدأها في العام 1982 بأوّل مجموعة قصصية له: «حب من نوع آخر».

انفتاح

بعد إنهائه الدراسة الثانوية في دبي يغادر صاحب النص القصصي الغزير إلى أمريكا وأوروبا للدراسة الجامعية، ولكن قبل أن ينفتح على بيئة ثقافية أوروبية غربية غزيرة هي الأخرى بالثقافة والآداب والفنون كان مبكراً قد شرب من نهر الثقافة الكلاسيكية: طه حسين، العقاد، الحكيم، وغيرهم من أعلام مؤسسين للكتابة العربية في النصف الأول من القرن العشرين، وسوف يضيف المرّ إلى خزائنه أو تغذيته الثقافية المبكرة تغذية أخرى هذه المرة ذات روافد أكثر اتساعاً من حيث الوعي بالأدب والفنون، فسوف يعرف عن قرب في أمريكا وأوروبا المسرح، وسيذهب بانتظام وشغف إلى اللوفر والمتروبوليتان، وسيقترب من الثقافة الموسيقية، وثقافة الأوبرا، أما الفتى الدبوي المولع بالكتب الذي قرأ ألف ليلة وليلة، وعنترة، وسيف بن ذي يزن، فسيقرأ في أوروبا، أعلام آدابها وشعرائها وروائييها في عقر دارهم كما يقولون.

في محمد المرّ أكثر من محمد المرّ، فهو القاص أولاً ومن حيث المبتدأ والخبر الأدبيين سيبدأ في أوائل الثمانينات كاتباً قصصياً منتظماً بواقع إصدار مجموعتين قصصيتين أحياناً في العام الواحد من 1982، وحتى 1988 بشكل خاص، والملاحظ هنا أن المكان البطل، أو أن بطولة المكان هنا في هذه السردية القصصية تعود إلى دبي، المكان والذاكرة والناس والحياة. الألوان، والأشياء والروائح. الفرجان الدبوية، والسكيك، والبحر، والبراجيل، والبيوت، واليوميات الإنسانية الحنونة، والقاسية أحياناً، وكل ذلك على قوام قصصي يبدأ عادة بأشخاص يقدمهم لك الكاتب كما هم بكل بساطتهم، وانكساراتهم، وأحلامهم، وأفراحهم المكثّفة تماماً في وجوههم الطيّبة، والمنكسرة أحياناً، وأحياناً الحالمة بكل ما يمتلك الكائن البشري من حق في الحلم، وفي كل الأحوال لم يخرج المرّ عن طبع وطبيعة المكان الإماراتي وصورتيه القديمة والحديثة: «صوّرت عدة أفلام لطيور النورس والفلامنجو الوردي في رأس الخور والبيوت القديمة والعبرات والمراكب الخشبية في الخور والأسواق التقليدية. بقيت بعض مناظر طبيعية ومنها منظر الشروق والغروب. أردت أن ألتقط عدة صور للغروب من منطقة الكورنيش في ديرة..»، من قصة «تصوير عند الغروب» في مجموعة «مكان في القلب»- 1988.

الإذاعة

عرف محمد المرّ الكتابة للإذاعة قبل أكثر من ثلاثة عقود. وسوف تتحوّل تلك المادة الإذاعية الأثيرية إلى كتاب أشبه بقاموس ل «كلام الناس» في الإمارات وهو اسم الكتاب: نقترب فيه من «رمسة» و«سوالف» أهل البلاد، ونتذوق إيقاع ومعاني الأمثال والأقوال والتعابير الاصطلاحية المحلية:.. «إذا كان راعي المال راضي.. البيدار شو يخصّه»، «إبليس ملعون وكل يلعنه»، «ابن آدم أسود رأس»، «البيت بيت أبونا والغرب دحرونا»، «البحر سلطان وكل در وله بندر».

حظيت الصحافة المحلية في فترة من حياة محمد المر الكتابية بقلمه الوطني المثقف، وأسلوبه الصحفي السلس، وأفكاره الاجتماعية، والإنسانية، والفكرية محورها تاريخ الإمارات في وقت كانت فيه الصحافة الإماراتية في أحوج حالاتها لأقلام محلية مهنية «تحمل الكثير من هموم وشجون ومشكلات ومخاوف العديد من أنباء الإمارات في مختلف إماراتهم ومدنهم ومناطقهم»، وعند العودة إلى بعض أعمدة محمد المرّ الصحفية قبل عقود، نتيقن من كاتب له ذاكرة موصولة مشيمياً بالمكان وروحه وإنسانه الذي هو محور المرّ سواء في الأدب أو في الصحافة.

شغفيحمل محمد المرّ طبيعة جمالية هي جزء أصيل من تكوينه الثقافي والمعرفي والموسوعي، وأقصد بها شغفه الأصيل بتذوق الأعمال الفنية والخطية والموسيقية التاريخية والعريقة واقتنائها وإتاحتها لناس الفنون وأهلها الفطريين، ويتألق شغف هذا الرجل الذي ينطوي على روح شاعر حين نعرف حجم مقتنياته من لوحات فن الخط العربي، وأكثر من ذلك، ثقافته الفنية في مجالات التشكيل والخط والموسيقى بهدوء وبلا استعراض ثقافي معلن، أما كتابه «إبداعات إماراتية» وهو حزمة نصوص شعرية وسردية لخمسين كاتباً وكاتبة من الإمارات، فيكشف عن بوصلته النقدية الجمالية الدقيقة، كما تكشف مختاراته تلك عن نقدية أديب مكتمل بالعديد من روافد الأدب والفنون المحلية والعربية والعالمية برؤية متوازنة معتدلة دائماً:.. الائتلاف الموضوعي دائماً بين التراث والثقافة الشعبية، وبين الحداثة والمعاصرة بعقل نقدي محترم.

حضور محمد المرّ الشخصي والأدبي والاعتباري كاتباً، وإنساناً أنيق الثقافة واللغة وشفّاف الرؤية جعل منه بجدارة أوّل أديب إماراتي ينتخب بالتزكية في العام 2011 لرئاسة المجلس الوطني الاتحادي، وفي العام 2006 استحق وساماً رفيعاً آخر: جائزة الإمارات التقديرية للعلوم والفنون والآداب، وهو يملأ مكانه ويملأ حضوره في كل موقع ومنصب شغله بروح مهنية مُلْهمة.

 

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"