لِنَدفنِ الأحقاد والثأر ولنسرع للحوار

00:05 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. نسيم الخوري

أستعيد هذا العنوان من المحيط غسّان تويني. تهدّج به أمام بكره النائب الوسيم الشهيد جبران في 2005. تصدّر العنوان كتاباً لغسّان بالفرنسية، وأوردته بصيغة الجمع قاصداً لبنان بؤرة من الأحقاد، وكأنه وطن نقيض لذاته يستغرق أهلوه في الأحقاد وتشريع أبواب الثأر بفصوله المتعددة.
أطرح ساحات من كلام تخلط الفعل بردود الأفعال، وتدمج المنطق الفلسفي بالدين، والديمقراطية بالطائفية في مناخ لا هوية نهائية ومرساة للبنان العربي الصغير. لا جذور للحدة التي طغت مع الانتخابات البرلمانية الأخيرة وما قد يليها من استحقاقات سوى الجذور الطائفية التي أفرزت التنازع في الأكثريات والأقليات، فتدمغ السياسة والاجتماع والحياة بتعظيم الاختلافات والفروق والتمايزات والشعور بالاضطهاد والغبن والرعاية أو الرفض. تسحب المغالاة الألسنة والعقول فيصبح التهميش والاستئثار والذمية والهيمنة ثقوباً في «جحيم» تتوالد فيه الأحاديث الطافية، لتنبش جذوره بين المتكلمين بحلول التقسيم والفيدرالية والازدواجية والحياد والحياد الإيجابي، وتتمظهر كلّها في الشتائم والسباب والعداوات. تبدو الديمقراطية اللبنانية ببساطة، مصطلحاً مستعاراً ومغلّفاً بالقهر ورفض الآخر، واستدعاءات الحروب المتجددة أو المتناسلة للهجرة والتهجير.
لم تعد الديمقراطية هنا مصطلحاً مستقلاً، يمكن استعماله ونقده في الأحاديث والنصوص، من دون صفات تشوّهه مثل الديمقراطية التوافقية والمستوردة والمسلّحة، أو ديمقراطية الطوائف، بما يسلخ الواقع، بحكم تراكم التجارب والخبرات الأليمة، من مضامينه الأصيلة، فتصبح الديمقراطية شكلاً من الديكتاتوريات الموزّعة بين الأحزاب والطوائف والمذاهب والأتباع. ينتج عن هذه الاستعمالات خلط الديمقراطية  كمفهوم  بالحرية والقوة والسلطة والحق والسيادة والاستقلال.
ويجد الباحث مثلي الذي تجذبه الدعوات العامة الموسمية المتجددة إلى الحوار، نفسه مشغولاً بتصفية تلك المصطلحات وتفصيلها وتنشيفها تحت شموس العقل والتواضع، ليكتشف وكأن حكّام لبنان أسرى كتاب «الأمير» لمكيافلي المقيم تحت وسائدهم، وفيه أوصى الكاتب بالضرورة القصوى لخلط الدين بالتفلسف وبالسياسة، كمفصل أساسي حفاظاً على السلطات عبر إيقاظ العصبيات الدفينة ودغدعتها شعبياً، وتسخيرها لأغراض دنيوية لا تمتّ إلى الدين والمذاهب والسلطات الإلهية بصلة منطقية.
يتجوّف مصطلح الديمقراطية  إذن  عند هذا الخلط الذي يجعل من العسير فهم توليفات القوانين الانتخابية والسياسات العامة وطرائق الحكم والأحداث السياسية عند الممارسة، لا بالقول الموزون والخطب التآلفية الداعية إلى الوحدة الوطنية. ليس هناك من وحدة أو تفاهم في لبنان المدّعي تاريخياً بأنه نقطة المصافحة بين القارات الثلاث؛ بل النقطة الأخيرة التي تكاد تكون الوحيدة الغنية باختبارات تدامج الطوائف والأديان ومحاولات صهرها إنشائياً في نصوص مستحيلة التطبيق خارج الأصول الثابتة القديمة.
الطائفية هي المحصّلة غير الشرعية لانفصال الدين الطبيعي عن الدولة. ولو كان لبنان  مثلاً  دولة دينية بالمغزى التقليدي للمفهوم، «لفلشت» طائفة ما ثوبها الديني فوق الوطن أبداً، ولكان ممكناً نظرياً لا عملياً، حلّ معضلة الأقليات. لكن لا ضير من «تجليس» الفهم اللبناني للديمقراطية وللجوار والحوار درءاً للدماء الراكضة عبر التذكير بقدسية الحوار عبر سطور من اليونان القديمة: بلغت أيها الأبطال اسبارطة ذروة حضارتها بين 1650  1500 ق.م، وغرق اليونانيون قروناً أربع في الظلمات، وتحولت بلادهم إلى مجموعة من المدن المتناحرة قبل أن تخرج مجدداً إلى السياسة Politiké باليونانية، ومعناها إدارة شؤون الناس.
وشهدت اسبارطة مجلساً قوامه ثلاثون يونانياً ينتخبون مدى الحياة لإدارة الحكم؛ الأمر الذي استتبع أزمات كبرى وحروباً ضدّ طبقات رفضت تقاسم السلطة، وكان المعبر الأساسي في خلخلة السلطة، وتفكيك القوى بالتماس الحوار في مدن اليونان في القرن السادس «ق. م»، وفق الحرية والمساواة والاعتراف بالآخر. غدت أثينا مهد الديمقراطية وعرفت بالEcclesia الكلمة التي منها اشتقت كلمة Eglise؛ أي الكنيسة، بمعنى السلطات الدينية بأشكال لم تنجح في فنون الإقناع بعدما احتل الكلام الصريح فنون السياسة.
عادوا مستلهمين سقراط الذي لم يترك نصوصاً (470  399 ق.م)؛ بل عبر تلميذه أفلاطون في كتابه «الجمهورية»، حيث أرسى الحوار السبيل العظيم لبلوغ الحقيقة لا بالكتابة؛ بل بالاتصال المباشر بين النفوس التي تتوارث القتال. 
قاد هذا المنهج السقراطي إلى تفسير الوضوح الذاتي لدى الأطراف المتحاورة ووعيهم بأن معرفتهم لا أمزجتهم، هي الحقيقة. المهم أن يطبق المحاور مبدأ: «اعرف نفسك بنفسك» كثورة صغيرة تُعرّي ذاته أو تعرِّفه بها. لماذا؟ 
لأن الحقائق موجودة كلها أمامنا معقّدة وصعبة، لكن المعرفة ممكنة وطبيعي أن تتعثر الحوارية وتتكرر خصوصاً لدى من يؤكدون ذواتهم بالكلام، وهذا ما عالجه سقراط بعبارتين: «إعلان الجهل» الذي يصاحبه التهكم الخفي والتظاهر بقبول رأي الطرف الآخر وقصفه بالأسئلة؛ لأن السؤال هو الحياة، بينما الجواب هو الموت، والتشبث بدائرة السؤال يكسبك الحوار بكشف الحقائق.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"