عادي

علي أبو الريش.. فيلسوف الرواية

23:27 مساء
قراءة 4 دقائق

علاء الدين محمود
في هذه الزاوية، نحتفي بمجموعة من أبرز مبدعينا الذين قدموا لمسات أدبية جمالية وإمتاعية، أثرت الوجدان، وارتقت بذائقة القراء، منحونا زاداً عبّر عن إنجازات الوطن وتحولات المجتمع وهموم البشر، كانوا ذاكرتنا التي تؤرخ للمكان ومدونتنا التي عبرت بصدق وإخلاص عن آمالنا وأحلامنا، هم قناديلنا التي نسترشد بها في دروب الحياة.

«الرواية ميدان للعبة الفلسفة»، هكذا يتعامل الكاتب والمبدع وشيخ الروائيين الإماراتيين علي أبو الريش، مع السرد؛ إذ يحشد النص السردي بمقولاته الفكرية الخاصة، وباقتباسات وتأويلات لفلاسفة غربيين وعرب، يصنع شخوصاً يتحركون في مسرح الحياة وهم يتمثلون تلك المفاهيم، الأمر الذي يجعله بجدارة فيلسوف الرواية الإماراتية، فهو يصنع من أعماله لعبة ذهنية، تتطلب بالفعل قارئاً صاحب تجربة.

ويشيد أبو الريش داخل نصوصه السردية موقفاً، وينثر المعاني من دون اختلال في أدوات الرواية؛ بل يوظفها بصورة تكاد تكون مثالية، وفي أكثر من مناسبة يتحدث أبو الريش على حضور الفلسفة وأثرها في نصوصه، فهو يقول: «أقضي ساعات يومية في الاطلاع على الأعمال الفلسفية؛ حيث إن الكاتب الذي لا يقرأ الفلسفة وعلم النفس لا يمكنه المواكبة والتمكن من الأدوات التي تجعله قادراً على التعبير عن مجتمعات وإنسان العصر الحاضر الذي يعيش في ظل ثقافة الاستهلاك والمتغيرات الكبرى، فلابد للمبدع من أن يتسلح بالفلسفة حتى يفهم الإنسان من الداخل والخارج، بالتالي يكتب عنه وعن مشاكله وشواغله»، لكن أبو الريش وعلى الرغم من اعتماده على الفلسفة كرافعة لسردياته الروائية، فإنه يرفض الألغاز والغموض، فكل أصحاب الرؤى الحقيقية وضعوا همهم الأول تفسير العالم وليس الإسهام في غموضه؛ لذلك يقترب أبو الريش من القارئ كثيراً في أعماله السردية، ليتقاسم معه التجربة والرأي.

يوتوبيا الواقع

إنسان حالم، يطلق لخياله العنان ليصنع عالماً موازياً لا تضيع فيه الإنسانية أو الحقيقة التي هي هم يبذل فيه وحوله الكلمات والأفكار، وتلك التشييدات السردية التي يقيمها أبو الريش نابعة من عمق قناعاته الفكرية والمعرفية والجمالية، يواجه بها وعبرها قبح العالم في زمن الاستهلاك والاغتراب، وكأنه قد حمل تحدياً يلزمه بالإسهام في عودة الإنسان إلى جوهره، إلى حقيقته، وهو مشروع وهب له نفسه عبر الرواية والكتابة المسرحية، فتلك أدوات ووسائل تحمل خطاباً معرفياً وفكرياً لأبو الريش يستعين فيه بحشد من الروائيين والفلاسفة الذين آمن بإنسانيتهم واهتماهم بالحقيقة أمثال: نيتشه، الذي اهتم بالإنسان ومخاوفه وقلقه الوجداني ومتاعبه في الحياة، وكانط، الذي رفع من مقام العقل الناقد، وكذلك فيكتور هوجو، وتولستوي، والعديد من الأدباء والمفكرين؛ بل والعلماء كذلك، فكتابته التي تغوص في أعماق النفس البشرية، استعانت بعدد من المعارف منها علم النفس؛ حيث كان لعالم النفس «سيجموند» فرويد تأثيره الخاص في «أبو الريش» ونصوصه الإبداعية؛ إذ أقبل على مؤلفاته بنهم شديد ولا تزال إحدى مقولاته تسيطر على أبو الريش، وهي التي تقول: «إن الإنسان المتحضر ما زال يحمل شيئاً من عصر الغاب»؛ أي أن الإنسان ما زال بدائياً وعدوانياً ولا يؤمن بالحقيقة، ويذكر أبو الريش أنه تمثل تلك المقولات في أعماله؛ حيث صنع شخوصاً ومواضيع ينتمون إلى فكرة فرويد تلك، غير أن أبو الريش، في مشروعه الحالم اليوتيوبي ذلك لا ينفصل عن الواقع؛ بل يكرّس أدبه وأفكاره من أجله لجعل أكثر جمالاً واحتمالاً.

حرية صلبة

كثيرة هي القيم الفكرية التي احتفى بها أبو الريش في كتابته المختلفة، سواء كان على مستوى السرد، أم اللحظات المسرحية، أم الإشراقات الشعرية القليلة، غير أنه يعلي من فكرة الحرية بصورة خاصة؛ حيث تدور كتابته المتعددة حول ذلك المفهوم إلى حد الغوص والتعمق، فهنالك الحرية المرنة، وهنالك أخرى أطلق عليها أبو الريش «الحرية الصلبة، التي يحمل معانيها في كتابه «الحرية خارج الحرية.. سحر اللحظة... رقصة الموت»، وكأنه يشير إلى المفارقة بين الحرية والضرورة؛ إذ لا يمكن الوصول إلى الأولى، إلا بتجاوز عقبة الأخيرة».

«البحر والصحراء»، تلك هي الفضاءات الجغرافية والبيئية والمكانية التي شكلت وجدان أبو الريش، منذ مولده في عام 1956، وصنعت له في ما بعد بصمته الخاصة في مجال الكتابة الإبداعية، وموقفاً فكرياً جاء نتاج تجربة تأملية أهدتها له تلك المناخات المحرضة على التفكير؛ حيث البحر بعمقه، والصحراء بامتداداتها؛ لذلك هو دائماً ما يتلفت بقلبه إلى كتاباته الأولى، لأنها تحمل رائحة المكان والزمان الذي كتبت فيه، وكانت رأس الخيمة، هي المسرح الذي شهد بدايات الشغف بالقراءة والاطلاع؛ حيث كانت ترد في ذلك الوقت كتابات المؤلفين والأدباء العرب والغربيين في ذات الوقت فكان أن نهل من إشراقات وإبداعات نجيب محفوظ صاحب المكانة الخاصة لدى أبو الريش، الذي كان يعده من البوابات الرئيسية في تعرفه إلى عالم الأدب قبل أن ينتقل إلى قراءة أعمال الغربيين السائدة في ذلك الوقت من أمثال البرتو مورافيا وفيكتور هوجو، وتولستوي..

وتد الخيمة

التجارب التي يمر بها الكاتب، لا تظهر مباشرة في أعماله؛ بل تحتاج إلى فترة كي تتضح؛ حيث إن الكتابات الباكرة ليست إلا محطة في سلسلة تلك التجارب، لكن أبو الريش قلب تلك الآية تماماً، فكان أن ولد بأسنانه في أولى إبداعاته الأدبية عبر رواية «الاعتراف»، التي صدرت في عام 1982، وهي النص الذي تتضمن رؤية الكاتب إلى الوجود والبحث المضني عن الحقيقة؛ لذلك لا يبدو غريباً أن يطلق أبو الريش على ذلك العمل وصف «وتد الخيمة»، الذي انتصب بالفعل فارعاً قوياً ليعلن عن مولد عدد من الأعمال الروائية وفي مجالات أخرى، وقد دخلت تلك الرواية ضمن قائمة أفضل 100 رواية عربية في القرن العشرين، والتي أعلن عنها اتحاد الكتّاب العرب عام 2000، وهي العمل السردي الذي جاء حافلاً بالأساليب والتقنيات الفنية المميزة.

 

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"