كيف تعمل سوق السيارات المستعملة؟

21:36 مساء
قراءة 3 دقائق

د. عبدالعظيم حنفي *
في فترة السبعينات من القرن العشرين أصبحت المصداقية أحد الاعتبارات الرئيسية، والسمعة والشفافية والاستقلال، أصبحت تلك العناصر جميعها شديدة الأهمية بالنسبة للسياسة الاقتصادية. ويعود ذلك الثراء الرياضي للجدول الإلكتروني لا نهائي الأبعاد. وكان معظم الاقتصاديين يتعلمون في نفس الوقت تقريباً أن يدمجوا المعلومات في النماذج الخاصة بهم وليس التوقعات. وكانت الشخصية الرئيسية هنا هي عالم الرياضيات الشاب جورج أكيرلوف الذي ولد عام 1940، وظهر أكيرلوف في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في خريف عام 1964 وكان لا يزال حديث التخرج من جامعة «يال» ومملوءاً بالحماس حيال الرياضيات؛ حيث استهلك معظم طاقته الإضافية في الحصول على دورة تدريبية حول الجبر الطوبولوجي، وذلك في خلال سنته الأولى في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، تعلم الجميع في المعهد في ذلك الوقت نظرية النمو، لكن الموضوعات التي تضمنتها نظرية النمو لم تثر حماس أكيرلوف؛ حيث أراد أن يعرف كيفية عمل الأسواق الحقيقية. 
كان أكيرلوف قد قرر منذ فترة طويلة أن يدرس التغييرات السنوية الكبرى التي تطرأ على سوق بيع السيارات الجديدة. فربما تلقى مصادر سرعة التذبذب في مبيعات السيارات، أياً ما كانت، بعض الضوء على مصادر التذبذب في وضع الأجور والأسعار في ميكانيكا دورة الأعمال. وكان السبب الرئيسي وراء شراء الأفراد كثيراً من السيارات الحديثة، كما وجد أكيرلوف، هو فقدانهم الثقة في دوافع بائعي السيارات المستعملة. «إذا كان يرغب في بيعها، ربما لأنها معطوبة، ولذلك لا أريد شراءها» بدأ الاقتصاديون في تسمية تلك المشكلة بالمعلومات غير المتماثلة وهي المشكلة التي تحدث عندما يكون لدى أحد الأطراف معلومات غير متوفرة للطرف الآخر. 
واتضح أن تلك الاعتبارات كانت شديدة القدم بالنسبة لتجار الخيول، لكن لم يكن أكيرلوف يعرف تلك الحقيقة في ذلك الوقت. الآن تعرف الآلية التي حددها أكيرلوف بسوء الاختيار Adverse Selection فقد تكون هناك مخاوف من أن سوق السيارات المستعملة يمكن أن ينكمش؛ بل يمكن أن ينهار. وسرعان ما أدرك أكيرلوف أن هذه الآلية ليست مقصورة على السيارات وحدها. ويمكن ملاحظة سوء الاختيار في أي سوق يصعب فيها تقييم الجودة، كسوق القروض وسوق التأمين على سبيل المثال، وقد قام بعرض نتيجة اقتناعه (متجاهلاً صعوبة الإثباتات الطوبولوجية التي كان يفضلها أكثر من النهج الأكثر قياسية وذلك على مدار الطريق). أرسل الورقة البحثية ثم سافر إلى الهند لمدة سنة أملاً في أن يحصل على تقدير مباشر حول دراسته لأسباب فقر تلك الدولة. في نفس الوقت قوبلت ورقته البحثية حول مبيعات السيارات الحديثة بالرفض عدة مرات، وقيل إن ذلك لأنها كانت شديدة التفاهة ولا يمكن نشرها، أو لأن محكم صحيفة الاقتصاد السياسي التابعة لجامعة شيكاغو رأى أن هذه الورقة البحثية كانت غير صحيحة بشكل واضح، ورد المحكم مؤكداً وجهة نظره، بأن قال لو أن تلك الورقة كانت صحيحة لاختلف الاقتصاد عن الوضع الذي هو عليه الآن. وظهرت الورقة الخاصة بسوق السيارات المستعملة أخيراً عام 1970 في الصحيفة ربع السنوية للاقتصاد The Quarterly Journal of Economics، وأحدثت نجاحاً باهراً وسريعاً، ولم يمض وقت طويل حتى أصبح الاقتصاد بالفعل مختلفاً عما كان عليه. (حصل جورج أكيرلوف على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 2001). 
وقد اتضح أن دراسة السيارات المستعملة مثلت بداية طريق العودة إلى المنافسة الاحتكارية. وأثبت أحد الشبان من طلبة الدراسات العليا في هارفارد وهو مايكل سبينس وبعد مرور سنة بالكاد أن هناك طريقاً يمكن أن يسلكه البائعون للخروج من المأزق الذي وصفه أكيرلوف، فإذا كان هؤلاء البائعون هم طلبة متقدمون إلى سوق العمل يمكن أن يستثمروا في درجات علمية متقدمة. وقد اتخذ سبينس خطوة باهظة الكلفة لعرض نموذجه الذي أطلق عليه «السلوك الإرشادي». وكان نموذجه شديد الضيق، مثل السيارات المستعملة، لكن كان يمكن تطبيقها بشكل أوسع. وقيل فيما بعد إن «إبراز السوق»، فتح مجالاً أمام ألف رسالة دكتوراه أخرى؛ حيث ثبت أن هذا السلوك مفيد في الوقت الذي توجد فيه فجوات في المعلومات المتاحة للمشترين، سواء في سوق الوظائف، وفي أسواق المال، وفي سوق السلع الاستهلاكية المعمرة، وسوق الأدوية وما إلى ذلك. ومثلت هذه الطريقة وصفة رسمية ما أطلق عليه إدوارد تشامبرلين «تمايز المنتجات» كل شيء من الإعلان للتصميم.
* أكاديمي مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​كاتب مصري - أستاذ للعلوم السياسية والاقتصادية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"