ليس مجرد تقصير

00:03 صباحا
قراءة 3 دقائق

ليس لبنان وحده من توقّف عن النمو ويعاني أزمات اقتصادية وسياسية واجتماعية. فلو دققنا في خارطة العالم العربي لوجدنا نصف دوله تعاني الأزمات ذاتها، إما بشكل واضح ومعلن أو مبطّن، رغم أن عدداً من الدول تتمتع بثروات طبيعية ضخمة تتيح لها العيش الكريم برفاهية. وما أطلق عليه «الربيع العربي» بريء من الأوضاع المترهلة التي آلت إليها هذه الدول.
 وكل ما فعله هذا «الربيع» أنه أزاح الغبار المتراكم على السطح منذ عقود، فأظهر التناقضات السياسية والخطط الاقتصادية الفاشلة، كما أظهر عيوب الأنظمة التعليمية، التي حافظت على العقلية الروتينية الراكدة، ومنها العقلية الطائفية والمذهبية والقبلية، كما أماط اللثام عن الواقع المزري للإعلام، والحياة الثقافية المتأخرة.
 باختصار، كشف «الربيع العربي» البنية الفكرية ذات الصلة بالقضايا الاجتماعية المتعلقة بالمرأة والطفل وأصحاب الهمم وكبار السن، حيث العناية بحقوق هذه الشرائح تعكس حضارة الدولة، ونجاح السياسات الإنسانية.
 في هذه الدول، التي لن نذكرها بالأسماء، يمكننا رصد المظهر الخارجي لنعرف حجم الإهمال والفوضى وعدم الاكتراث بالتنمية البشرية والإنسانية، وسيصدمنا في البداية انتشار المتسولين في الشوارع الرئيسية وأمام المطاعم والمحلات، ومعهم فئة يمكن استخدام مصطلح (التسول المقنع) لوصفها، وهذه الفئة تتكون من أطفال مشردين مثل باعة للعلكة والبالونات وزجاجات المياه، بينما المهنة التي تقبع خلف الشكل هي التسوّل، ويمكن رؤية فتيات صغيرات أيضاً ونساء مسنّات ورجال مسنين، وهناك فئة ثالثة تتمثل بالمرضى أو أصحاب العاهات الذين جعلوا من عاهاتهم وسيلة للتسول والتكسّب. ولا شك أن وزراء ونواباً وقيادات أحزاب يمرون يومياً بهذه المشاهد ولا يحركون ساكناً، حتى بات المشهد طبيعياً جداً، وهذا أسوأ ما يمكن أن يحدث لأي مجتمع، وهو الاعتياد على المظاهر السلبية.
 المتسول وكبير السن والطفل العامل وصاحب الهمة والمرضى المنتشرون في الشوارع، يعكسون عدة قضايا أولها الفساد المتفشّي في مفاصل الدولة والمجتمع، وعدم وجود خطط للحفاظ على كرامات الناس والسهر على مصالحهم وحل مشاكلهم، كما يعكسون هزالة أداء الوزارات والعفن السياسي للأحزاب والكتل البرلمانية، التي تصمت أو تتعامى عن مشاهد البؤس والخراب. أما المشهد الآخر الذي يجسد الفساد من قمة هرم السلطة حتى أسفلها، فيتمثل في فوضى المرور، حيث قيادة السيارة أشبه بمعركة وصراع من أجل البقاء، في ظل وجود شرطي السير الثابت والمتحرك، وما ينتج عنها من مشكلات تُستخدم فيها الأدوات الحادة وأحياناً السلاح الحربي، من دون تدخل أجهزة السلطة، وينطبق على المشهد المثل القائل: (الناس تأكل بعضها).
 هذه ليست أزمات اجتماعية أو اقتصادية أو مرورية، وليس لها علاقة بالبطالة، هذه مخرجات أنظمة مصابة باللامبالاة وقلة الضمير، ويمكن توجيه تهمة الخيانة العظمى لمكوناتها، لأنها ترى ولا تسمع ولا تتكلم، وبالتالي لا تتصرف، عن سابق إصرار.
 في هذا الواقع، تزدهر الجريمة بمعنى القتل، والسرقات بمعنى النشل والتحايل، ويتراجع مستوى الأمن والاستقرار، ويتعاظم الخوف من الحاضر والمستقبل. وفي هذه الدول، تصبح الهجرة حلم الشباب، فتُفرّغ القطاعات من الكفاءات والمهارات والخبرات، وينهار الاقتصاد ثم الدولة.
 في هذا الواقع، تنتشر اللغة النابية الوقحة، وتنتشر السلوكيات غير الأخلاقية، وتتدنى القيم الإنسانية. هو توصيف دقيق للدول الفاشلة، التي لا تستطيع توفير الخدمات ولا الأمن لشعوبها. والسبب التعارك السياسي والطائفي والمذهبي، وإهمال أنظمة التعليم، والهروب إلى الأمام حيث المزيد من الخراب، حتى تصبح الدولة كالطفيليات، تعيش على عطايا الدول المانحة، وصندوق النقد الدولي.
 ترى كيف يمكن لهذه الدول بعد هذا التوصيف، الحديث عن التطور والتنمية والابتكار والإبداع؟ وهي مفردات لا يتم تداولها إلا في دول يتصل أفراد شعبها بالبث المباشر ليقولوا: (شكراً قيادتنا الرشيدة، وحكومتنا ما قصّرت..).
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"