عادي

تونس.. فصل جديد من الصراع

22:54 مساء
قراءة 4 دقائق

د. محمد عزالعرب *

أصدر الرئيس التونسي قيس سعيد في 1 يونيو/حزيران الحالي، مرسوماً رئاسياً يقضي بعزل 57 قاضياً، بعد توجيه اتهامات محددة لهم تتعلق بالفساد والتلاعب بالملفات والموالاة لأحزاب سياسية والتستر على شخصيات متهمة بالإرهاب وتعطيل سير العدالة، وهي اتهامات وخروقات تهدد المصالح العليا للبلاد، وهو ما يشير إلى فصل جديد من الصراع بين الرئيس والسلطة القضائية.

تم الكشف عن هوية بعض هؤلاء القضاة، وأبرزهم يوسف بوزاخر، رئيس المجلس الأعلى للقضاة المنحل، والبشير العكرمي الذي يتهمه نشطاء سياسيون بإخفائه ملفات محورية مرتبطة بقضايا إرهابية فضلاً عن علاقة وطيدة تجمعه بحركة النهضة. وكذلك عميد قضاة التحقيق بالمحكمة الابتدائية عماد الجمني، ومن بين القضاة المعزولين أيضاً المتحدث السابق باسم القطب القضائي لمكافحة الإرهاب، فضلاً عن قضاة آخرين ارتكبوا اختلالات قانونية في ملف الاغتيالات السياسية.

اتهامات للقضاة

ولم تكن هذه أول مواجهة بين الرئيس قيس سعيد والسلطة القضائية، ففي فبراير/شباط الماضي قام الرئيس بحل المجلس الأعلى للقضاة وتعويضه بهيئة أخرى مؤقتة. كما أصدر مرسوماً آخر يمنحه الحق في إعفاء أي قاض يخل بواجباته اليومية ويمنع الإضراب لدى القضاة. واستند المرسوم الرئاسي إلى عدد من الاتهامات المحددة للقضاة المعزولين، وهي:

1- التورط في جرائم متعلقة بالفساد المالي: أحد العوامل المفسرة لقرار الرئيس سعيّد بعزل هؤلاء القضاة هو تورطهم في قضايا فساد مالي وتزوير أوراق رسمية. وفي هذا السياق، تم الإعلان عن أن الفترة المقبلة سوف تشهد إصدار مرسوم رئاسي يعكس ظهور اتهامات محددة لقضاة معينين مثل التورط في جرائم تبييض أموال وتورط بعض القضاة في الحصول على رشاوى مالية.

2- تعطيل تتبع المتورطين في قضايا الإرهاب: إذ أشار الرئيس سعيّد في بيان صادر عنه إلى أن أحد مسوغات هذا القرار هو اتهام هؤلاء القضاة ب«التستّر على متورطين في الإرهاب وحماية مسؤولين سياسيين وحزبيين من المحاسبة ومنع إجراء تحقيقات أمنية في قضايا إرهابية، بالإضافة إلى قضايا أخلاقية وتأديبية»، مشيراً إلى أن هناك امتناعاً عن فتح قضايا جزائية ذات صبغة إرهابية يصل عددها إلى 6268 قضية والسعي لحماية ذات الشبهة في ملفات إرهابية وكذلك في قضايا تتعلق ب «الجهاز السري» المتهمة فيه قيادات حركة النهضة، على رأسها راشد الغنوشي. وهنا تجدر الإشارة إلى أن قضية اغتيال الناشطين محمد البراهمي وشكري بلعيد المنظورة أمام القضاء منذ عام 2013 لم يتم الحسم فيها حتى الآن، وهو ما يثير الشكوك بشأن توجهات القضاة المكلفين بالحكم في تلك القضية.

3- استغلال النفوذ وتوظيف الصلاحيات: يرى الرئيس سعيّد أن إجراءات وقرارات ما بعد 25 يوليو/تموز 2021 يتعين أن تستكمل بشكل منظم، ومنها مواجهة الفساد وتجاوز القانون حيث تتطلب تطهير البلاد من القضاة لقيام بعضهم باستغلال مواقعهم الوظيفية.

ردود الأفعال

تعددت مواقف الأطراف المحلية والدولية إزاء قرارات الرئيس سعيّد بعزل القضاة، على النحو التالي:

1- دخول القضاة في إضراب شامل: أثار هذا القرار غضب الجهات القضائية المختلفة، لدرجة أن البعض وصفه بالمذبحة. لذا بدأ قضاة تونس في 6 يونيو/حزيران الحالي، في تنفيذ إضراب شامل بكافة محاكم الدولة، لمدة أسبوع قابلة للتجديد. ويأتي هذا الإضراب استجابة لدعوة المجلس الوطني لجمعية القضاة التونسيين، الذي أكدت فيه أن الإضراب سيشمل القضاء العدلي والمالي والإداري، باستثناء النظر في القضايا المتصلة بالإرهاب على مستوى النيابة العمومية، ودعت فيه القضاة إلى عدم الترشح إلى الخطط الشاغرة بموجب قرار الإعفاء، وعدم الترشح لعضوية هيئة الانتخابات التي تعتزم تنظيم استفتاء على الدستور الجديد للبلاد خلال الشهر المقبل. ولعل ذلك يمثل تحدياً لقرار الرئيس سعيّد لأن الإضراب القضائي من شأنه أن يعطل العمل بالمحاكم ويؤدي إلى تضرر المواطنين.

2- إطلاق أحزاب سياسية حملات وطنية لإسقاط الدستور، إذ أعلن عدد من الأحزاب التونسية مثل «التيار الديمقراطي» و«الجمهوري» و«التكتل» و«العمال» و«المسار» في بيان مشترك بتاريخ 2 يونيو/حزيران الحالي، إطلاق حملة لإسقاط الدستور عبر تحركات على الأرض، والتعبئة لأحزاب أخرى ومنظمات من المجتمع المدني، وأوضحت أنها ستبدأ أولى تحركاتها ضمن الحملة بتنظيم وقفة احتجاجية أمام مقر هيئة الانتخابات، التي جرى تعديل قانونها عبر مرسوم رئاسي مهد للرئيس سعيّد إعادة تنصيب أعضائها.

3- توسيع جبهة المعارضة ضد الرئيس، وهو ما يظهر يوماً بعد آخر، على نحو ما أكدته مقاطعة اتحاد الشغل جلسات الحوار الوطني وبيان جبهة الخلاص الوطني (التي تمثل تكتلاً لأحزاب سياسية ومنظمات مجتمع مدني) بأن ما قام به «تدخل فظ» في القضاء، واتهمت سعيّد بأنه أعطى لنفسه «حق عزل القضاة بناء على مجرد شبهة، من دون حق الاعتراض، وقبل أن يقول القاضي الجزائي رأيه النهائي».

4- اتهام واشنطن لسعيّد بتقويض المؤسسات الديمقراطية: إذ تواصل واشنطن ودول الاتحاد الأوروبي الضغط على الرئيس لإنجاح فعاليات الحوار الوطني، قبل الاستفتاء الشعبي على الدستور في يوليو/تموز المقبل والخروج من الأزمة السياسية التي تشهدها البلاد منذ عام. وفي هذا السياق، قال نيد برايس المتحدث باسم الخارجية الأمريكية: إن مراسيم الرئيس التونسي بإقالة 57 قاضياً وتحوير القواعد التي تحكم عمل المجلس الأعلى للقضاة تقوض المؤسسات الديمقراطية في تونس، مضيفاً: إن واشنطن أبلغت المسؤولين التونسيين بصورة مستمرة بأهمية الضوابط والتوازنات في النظام الديمقراطي. وقال برايس أيضاً: نواصل حث الحكومة التونسية على انتهاج عملية إصلاح شفافة تشرك الجميع تستفيد من إسهامات المجتمع المدني والطيف السياسي المتنوع لتعزيز شرعية مساعي الإصلاح.

انقسام متواصل

خلاصة القول إن التفاعلات الجارية في الداخل التونسي تشير إلى ازدياد حدة الانقسام السياسي، ما بين الرئيس سعيّد وخصومه، في ظل إصراره على تنفيذ تصوره لتونس الجديدة وتطهير مؤسسات الدولة من الفساد ومتجاوزي القانون، ومقاومة أطراف مختلفة مثل أحزاب سياسية واتحاد الشغل والقضاة وربما جهات أخرى لهذا المشروع، وستظل البلاد هي الخاسر الأكبر في هذه الدوامة من التأزم.

* رئيس وحدة الدراسات العربية والإقليمية بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"