عادي
هل ينتمي إلى الدراسات النظرية أم التطبيقية؟

صراع طويل حول شرعية علم الاجتماع

20:04 مساء
قراءة 3 دقائق
يمكن القول إن البداية الحديثة لعلم الاجتماع ترجع إلى القرن التاسع عشر، حين تشكلت اهتماماته البحثية ومواقفه الأيديولوجية بفعل أفكار عصر التنوير، الذي ساد في أوروبا في القرن الثامن عشر، ومهد بمنطلقاته وتوجهاته السياسية الوضعية، الطريق لقيام الثورة الفرنسية وإعلان حقوق الإنسان وترسيخ الأفكار البرجوازية، سواء على مستوى السلوك أو السياسة.
وتواتر تطور هذا العلم مع تحولات المجتمع الأوروبي ومؤازرة ظواهر تشكله الاجتماعي والاقتصادي والسياسي (تفكك العلاقات الإقطاعية التقليدية وتكوّن الطبقات وانتظام المصالح في أحزاب واتجاهات الرأي العام في أفكار وتيارات)، وترافق مع رهانات هذا المجتمع (الثورة الصناعية وحركة الاستعمار واحتدام الصراع الطبقي والنضالات العمالية والاجتماعية، وأزمة الحداثة، والوعي الاجتماعي الإنساني والبيئي أخيراً)، وحاول تلبية احتياجاته في التوفيق بين حرية الأشخاص واستقرار المجتمع.
يشير كتاب جينيفر ليمان وعنوانه «تفكيك دوركايم.. نقد ما بعد بنيوي» إلى أن نشوء علم الاجتماع قد اتخذ شكل صراع حول شرعيته، سواء على المستوى العلمي أو السياسي أو الأيديولوجي، ويبرز التقليل من أهمية النظرية الاجتماعية لدى صموئيل هنتنجتون حين يذكر في مقدمة أحد أعماله: «إن هذا الكتاب لا يهدف إلى أن يكون عملاً في علم الاجتماع، وإنما تفسيراً لتطور السياسات الكونية بعد الحرب الباردة» وفي موضع آخر يصف أحد أعماله بأنه: «لا يعد نظرية اجتماعية ولا تاريخاً، بل هو شيء بينهما، فهو عمل تفسيري في المقام الأول؛ لذا ربما لا يحظى برضا المنظّرين الاجتماعيين ولا المؤرخين».
يؤكد الكتاب الذي ترجمه إلى العربية محمود عبد الله أن كتابات دوركايم تركت أثراً جلياً على علم الاجتماع الحديث، تميز بتركه آراء من سبقوه، حين رآها تتسم بالنزعة التأملية والغموض، وبخاصة لدى سلفه أوجست كونت الذي لم يفلح في تحقيق البرنامج الذي وضعه لإقامة علم الاجتماع على أسس علمية، وكان يرى في علم الاجتماع علماً يمكن توظيفه لإيضاح الأسئلة الفكرية التقليدية، بتمحيصها ودراسة الحياة الاجتماعية بموضوعية، شأن علماء الطبيعة، عبر مبدأ وضعه لهذا العلم يقوم على دراسة الحقائق والوقائع الاجتماعية، باعتبارها أشياء، يمكن دراستها بنفس الطريقة الصارمة التي تحلل بها الأشياء والأحداث في الطبيعة.
حاول دوركايم التزام الحياد؛ نظراً لأن مجال تفكيره وهو الواقع الاجتماعي أسهم في الحد من نزعته المثالية، دون أن يقضي عليها نهائياً، ما حدا به أن يطرح مسألة الموضوعية في المعرفة طرحاً عقلانياً، يقوم وسيطاً بين الإنسان ومعتقداته.
ويلاحظ هذا الكتاب أن دوركايم مارس سعياً دؤوباً لتأكيد استقلال علم الاجتماع وتحديد موضوعاته، وبخاصة ما يتصل بالأبنية الاجتماعية العامة، والتقسيم الاجتماعي للعمل وحتى السلوكيات الأكثر فردية، حالات الانتحار على سبيل المثال، وفي محاولة منه لتحقيق هذا المسعى بذل دوركايم جهداً واضحاً لتحديد علم الاجتماع، والتأكيد على طابعه النوعي الذي يميزه عن علم الاقتصاد وعلم النفس والتاريخ والفلسفة، حين تجنب التساؤلات التي كان يطرحها برودون وماركس حول تناقضات الاقتصاد.
ورأى أن علم النفس لا يملك في الحقيقة إلا إمكانات محدودة مثل الإحساس والانفعال والإرادة، تلك التي لا تتحقق فيها الشخصية إلا عن طريق ممارسة هذه الإمكانات وإثرائها، بما تكتسبه من محيطها الاجتماعي، وتجاهل التاريخ في دراسته للأبنية الاجتماعية اعتباراً لديه من توجه علم الاجتماع إلى ما هو ثابت قارّ، ومن ثم ليس مطلوباً منه أن يعالج زمانية هذه الأبنية، إضافة إلى مناداته بضرورة إبعاد تجريد الفلسفة عن تجسيد علم الاجتماع.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"