عادي

إبراهيم مبارك.. سنديانة القصة

23:29 مساء
قراءة 4 دقائق

علاء الدين محمود
في هذه الزاوية، نحتفي بمجموعة من أبرز مبدعينا الذين قدموا لمسات أدبية جمالية وإمتاعية، أثرت الوجدان، وارتقت بذائقة القراء، منحونا زاداً عبـّر عن إنجازات الوطن وتحولات المجتمع وهموم البشر، كانوا ذاكرتنا التي تؤرخ للمكان ومدونتنا التي عبرت بصدق وإخلاص عن آمالنا وأحلامنا، هم قناديلنا التي نسترشد بها في دروب الحياة.
«لا أمارس الإبداع لأعلن فقط عن وجودي، بل من أجل أن يكون للكتابة قيمتها، وتأثيرها، فهي عندي فعل من أجل التغيير»، هكذا تحدث سنديانة القصة الإماراتية، إبراهيم مبارك، ليعلن أن وراء فعل الكتابة موقف من الحياة والوجود، فهي عنده ليست مسألة عبثية، ولا ترويج للذات بل هي «كوة» للضوء، ولبث الأمل، وللحض على التأمل والتفكير، وهي رصد للوقائع الحياتية واليومية، وبالتالي غوص عميق في داخل الإنسان، تلك هي القضية التي يقبل عليها مبارك بهمة عالية، وهو ما دفع الأديب والرائد الراحل ناصر جبران إلى تشبيهه بالسنديانة عندما قال: «هو شجرة كبيرة وعظيمة تمتد جذورها إلى كل تراب الوطن، فهو كإنسان يمتاز بحسن الخلق، تغلب عليه طيبته، جاد في عمله، متجذر في مواقفه، يميل إلى الحق، وهو رجل صريح وواضح، وطني إلى أقصى الحدود».
يحمل مبارك في مشروعه القصصي الهم الوطني، والأفق الإنساني، جعل من تفاصيل الواقع اليومي والحياة للناس العاديين مادة لمواضيعه السردية، فهو من جيل تشبع بحب الوطن فوضعه في حدق العيون، ذلك ما كان عليه رواد القصة والرواية والسرد الإماراتي في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، حيث كان يداعب أفقهم الأمل بالخير والتقدم والمستقبل الزاخر للأمة العربية، فكانت تلك الفترة مزدهرة ومتشبعة بالكتابة المشرقة، وكان المبدعون هم حملة لواء التغيير نحو غد أفضل، بالتالي لم يكن مبارك مجرد راصد للواقع يعتمد في ذلك على المباشرة الفجة، بل تنمو في قصصه وحكايته بذرة الحلم بالتحولات الكبيرة، وذلك ما تشهد عليه أعماله الكثيرة، فهو يتميز بأسلوب فريد في السرد وتقنيات يمرر عبرها تلك الحمولات الفكرية، ولعل ذلك التنوع في الأساليب التقنية والفنية، هو ما استعان به مبارك حتى لا يقع في فخ المباشرة، وحتى يستطيع أن يشرك القارئ في أفكاره وأحلامه، من دون أن يتسرب إليه الملل، فأعماله القصصية هي ميدان ومسرح تتجول فيه المواقف التي تعبر عنها وتتمثلها شخصيات صنعت بإبداع وإتقان، لذلك نرى في قصصه تعدد الأصوات التي تطل على الصراع بين القديم والجديد وترصد التحولات التي حدثت في الإمارات كواقع محلى، أو في العالم العربي كوطن كبير وممتد.
عنوان عريض
عشق وحب كبير يحمله مبارك لبلاده ومجتمعه، وولع كبير وعشق خاص بتصوير المشاهد الحياتية الواقعية، ويبدو أن هذا الحب للأرض هو عنوان عريض لقصة إبراهيم مبارك، فقد عشق الإمارات فرصد تفاصيل تاريخها، وواقعها الحياتي والاجتماعي في كتاباته السردية، ولا يزال مبارك يتلفت بقلب محب إلى الماضي، يأخذه الحنين في جولات في الأماكن التي شهدت مهد طفولته، وصباه، فتحضر بقوة في قصصه التي تقف شاهدة على قصة حب عميقة بين الكاتب والمكان، فالرجل يتوجه بقلبه دائماً إلى تلك البقاع التي شهدت مولده وتفاصيل صباه، حيث كان مولده في «أم سقيم» في منطقة جميرا بدبي، وهناك كان الكثير من العوامل البيئية والجغرافية التي شكلت مفردته وأسلوبيته ومواضيعه السردية، حيث البحر ومراكب الصيد وتفاصيل حياة ما قبل النفط، فالقرية الوادعة الهانئة في ذلك الوقت كانت تعيش في اقتصاداتها على الصيد، والحياة تمضي بسيطة لا يكبر فيها سوى ألق المودة والحب بين الناس، وكان لتلك الحياة الدافئة أثر في تشكيل شخصية مبارك الأدبية والإبداعية، ليس على مستوى مواضيع الكتابة فقط، بل حتى في نقده لروح وأسلوب العصر، فهو رجل متمهل في زمن سريع، لا يهتم كثيراً بالإكثار من الكتابة الإبداعية، فهي عنده لحظة تطرق بابه من حيث لا يدري، ولا يحتسب، لذلك فإن السرد عنده هو فعل لأجل الناس، وذلك أيضاً ينطبق على كتابته اليومية عبر العمود الصحفي الذي نذره من أجل قضايا المجتمع وهموم ومشاغل البشر، تعبيراً عن مواقفهم وانتماءات لهم، بالنسبة لمبارك فإن المثقف الحقيقي هو الذي يلتحم بالجماهير لا أن يكون بعيداً عنهم يقبع في برج عاجي ويرى الأشياء من ذلك العلو.
غواية الكتابة
ينحاز مبارك للبسطاء، فقد عاش حياتهم، وهو يقول: «كنّا من أسر فقيرة، ولم يكن بمقدورنا شراء الكتب، فوفرت لنا مكتبة النادي الكثير منها، خاصة روايات وقصص نجيب محفوظ، ويوسف السباعي، إضافة للأدب العالمي، وبصفة خاصة أعمال مكسيم جوركي، وتولستوي»، كانت تلك الموائد الإبداعية التي وفرتها مكتبة نادي النصر في دبي في نهاية ستينات وبداية سبعينات القرن الماضي، هي الزاد الذي استعان به مبارك في بداية مسيرته الإبداعية عندما كان قارئاً قبل أن تغويه الكتابة، حيث كان مبارك ضمن مجموعة ثقافية التحقت بالنادي، حيث انصرفوا إلى قراءة ما يقع في أيديهم من مؤلفات وكتب علمية وأدبية، وقد وفرت لهم اللجنة الثقافية للنادي القصص والروايات والإصدارات المتنوعة، وتعمق ذلك الاهتمام الأدبي لمبارك في مرحلة الجامعة التي شكلت له منعطفاً كبيراً في حياته، فهناك التقى بأحمد راشد ثاني، وخالد بدر وآخرين، لتتوثق بالتالي علاقته بالقصة القصيرة، وتلك كانت هي البداية الحقيقة لمبارك مع الأدب في مسيرة، ما زالت تؤتي أكلها إبداعاً، وجمالاً.
عقد فريد
كانت الأعمال الأولى لمبارك تعبر عن تجربة حقيقية ونضج فني، فقد تأثرت بالأجواء الاجتماعية والأفكار التي بدأت تظهر فيها فقد عبرت قصته الأولى «ضرب المضارب» عام 1974، عن قضية المرأة في سياق شواغل تلك الفترة، والملاحظ أن مبارك قد ولج ميدان الكتابة الإبداعية باكراً، وجاءت محاولاته الإبداعية الأولى متأثرة بالأجواء العامة في سبعينات القرن الماضي، ثم صدرت له أول مجموعة قصصية بعنوان «الطحلب»، عام 1987، لينسج بعد ذلك من أعماله المتعددة مثل: «عصفور الثلج»، و«خان»، و «شراع الريح»، و«ضفاف الكلام»، و«عطش البحر»، و«جمرة الصحراء»، و«ضجر طائر الليل»، وغيرها من الدرر، عقداً ثميناً وفريداً يزين جيد السرد الإماراتي.

 

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"