العقوبات الدولية في زمن الحروب

00:08 صباحا
قراءة 3 دقائق

تختلف دلالات العقوبات الاقتصادية التي تفرضها الدول والتكتلات السياسية الدولية في أزمنتي السلم والحرب، إذ إن العقوبات التي فُرضت في مراحل سابقة على دول مثل الصين وروسيا وإيران وعلى نظام الميز العنصري في جنوب إفريقيا، سواء من طرف الدول الغربية أو من قِبل المجموعة الدولية بناءً على قرارات أممية؛ تختلف إلى حد بعيد عن العقوبات التي تُفرض الآن على موسكو في زمن الحرب الروسية في أوكرانيا، لأسباب عديدة تتعلق بكون أن العالم يعيش في أتون حرب متعددة الأوجه بين الغرب وروسيا.
 ويعود هذا الاختلاف إلى نقطتين رئيسيتين: أولاهما هي أن العقوبات الغربية على روسيا تكاد تكون شاملة وتمس ربما لأول مرة في تاريخ الصراعات ما بين الدول، حظر الطيران فوق الأجواء، ولعلّ منع طائرة وزير الخارجية الروسي من عبور أجواء دول أوروبية من أجل الوصول إلى صربيا، يمثل أبرز مثال على ذلك؛ كما تعمل هذه العقوبات أيضاً على الاستحواذ على ممتلكات مواطنين روس ليست لهم بالضرورة صلات مباشرة بالخيارات السياسية لدولتهم. أما النقطة الثانية فتبدو وثيقة الصلة بالمثل الشائع القائل: الشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده، حيث إن العقوبات الغربية، ونظراً لكونها شاملة، فإنها ألحقت أضراراً كبيرة بالدول الغربية أكثر مما أثرت بشكل فعلي في الاقتصاد الروسي الذي يعتبر أقل تبعية للمنظومة الاقتصادية الدولية، وبالتالي فإن من قاموا برشِّ «مياه» العقوبات ابتلّوا بها قبل أن يبتلّ من أرادوا رشّه بها.
 ونستطيع أن نلاحظ أن الهدف الأساسي من وراء فرض العقوبات الغربية على روسيا، تمثل في شن حرب اقتصادية شاملة ضد روسيا النووية من أجل تركيع اقتصادها، بحسب تعبير وزير الاقتصاد الفرنسي برونو لومير؛ إلاّ أن الذين أطلقوا هذه الحرب، أهملوا، كما يقول الباحث جون بابتيست نوي، أن الاقتصاد ولكونه يستند على التبادل فإنه يتحرّك في اتجاهين متقابلين وليس في اتجاه واحد، ومن ثم فإن معاقبة روسيا هي معاقبة للدول الغربية لاسيما أوروبا. لقد كان الهدف يرمي إذن إلى إضعاف روسيا لدفعها إلى الانسحاب من أوكرانيا دون الاضطرار للدخول في مواجهة عسكرية معها.
 وعندما نتحدث عن التأثيرات السلبية للعقوبات الغربية في أوروبا نفسها، فإنه لا يمكننا أن نضع الدول الأوروبية على قدم المساواة، فهناك دول ذات اقتصادات متواضعة، ودول أخرى لم تكن تتعامل مع روسيا إلاّ في حدود ضيقة، ودول صناعية كبرى مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا كانت تربطها معها علاقات اقتصادية قوية سواء في مجال الطاقة كما هو الشأن بالنسبة لألمانيا، أو في مجال الاستثمارات داخل السوق الروسية، كما هو الحال بالنسبة لفرنسا التي كانت شركاتها توظف 160 ألف عامل روسي بحسب أرقام رسمية، وكانت تحصل على عوائد معتبرة، إذ وصل رقم أعمال إحدى الشركات التجارية الفرنسية في روسيا إلى 18 في المئة من مجموع مداخيلها عبر كل فروعها في العالم.
 وفضلاً عن كل ما تقدم، فإن أسوأ ما تمخض عن هذه الموجة الشاملة من العقوبات هو أنها هزت بشكل غير مسبوق ثقة أغلبية دول العالم في النظام النقدي الدولي، حيث بدأت الدول تكتشف أن ما تمتلكه من أرصدة بالعملات الدولية مثل الدولار واليورو، قد يكون وهمياً وقد يأتي عليها حين من الدهر تجد نفسها بدون رصيد، لأن أوراق العملات ليست ملكاً لها ولكنها أوراق نقدية تتحكم فيها البنوك المركزية التي تشرف على طباعتها؛ وقد دفعت هذه الوضعية دولاً مثل الصين إلى تسريع وتيرة استعمال العملات الوطنية في معاملاتها التجارية مع دول أخرى مع الحرص على ربطها بالذهب للمحافظة على قيمتها.
 ويمكن القول إن العقوبات الأخيرة التي فرِضت على روسيا أكدت بشكل واضح أن الغرب كما، أشار إلى ذلك برتراند بادي، لم يعد يتحكّم وحده في العالم، وأن العالم أصبح فعلاً متعدّد الأقطاب وأضحت قوى إقليمية في العالمين العربي والإسلامي وفي شرق آسيا وفي أمريكا الجنوبية، تملك أجندتها المستقلة وتتعامل مع العقوبات الغربية وفق الأسلوب الذي يخدم مصالحها.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"