عادي
لوحة عامرة ببهاء الروح

«الدراويش» لمحمود سعيد.. لحظة إيمان تحلق بالقلب

16:38 مساء
قراءة 4 دقائق
الشارقة: علاء الدين محمود
الفنان الحقيقي لا يقوم برسم الواقع فقط؛ بل يؤوله ويطور حوله أطروحة فكرية وجمالية، ولعل بروز التيارات والمدارس الإبداعية في عالم الرسم والتشكيل جاء ليعزز أفكار الرسام ورؤيته في تناوله للمواضيع الفنية المختلفة، ولئن كانت معظم تلك التجارب والاتجاهات الفنية قد ظهرت في الغرب، فإن الفنانين حول العالم قد نهلوا منها، والواقع أن العديد من المبدعين العرب في مجال الفنون الجميلة والتشكيلية في العالم العربي قد تأثروا بتلك الاتجاهات فصقلت تجربتهم وعمقتها.
الفنان محمود سعيد «1879 ـ 1964»، يعد واحداً من أهم الرسامين العرب، وهو من أوائل مؤسسي المدرسة المصرية الحديثة في الفنون التشكيلية، ويعد من أكثر الفنانين الذين كتبت عنهم دراسات عن حياته وأعماله؛ وذلك لعلو كعبه ومكانته الفنية الراسخة؛ حيث كان له تأثيره الكبير في العديد من الفنانين العرب، وحاز العديد من الجوائز الرفيعة، مثل ميدالية الشرف الذهبية في معرض باريس الدولي عام 1937، كما أن فرنسا منحته عام 1951 وسام «لجيون دوبنر»، وفي عام 1960 كان أول فنان تشكيلي يحصل على جائزة الدولة التقديرية للفنون، وعلى الرغم من أنه تخصص في مجال القانون، فإنه أحدث فتوحات كبيرة في الفن والتشكيل.
*أثر
لوحة «الدراويش»، هي واحدة من الدرر الفنية عالية القيمة، قام سعيد برسمها في عام 1929، ونالت شهرة وصدى كبيرين على المستويين العربي والعالمي، وتنتمي اللوحة إلى عوالم الفنان الجمالية والروحية، فعلى الرغم من انحداره من عائلة أرستقراطية، فإنه كان شديد الالتصاق بالواقع بمكوناته الطبقية المختلفة، فكان أن تأثر تأثراً كبيراً به وظهر ذلك في كل أعماله، إلا أن الأثر الديني كان واضحاً وكبيراً، فقد أبرزت لوحة «الدراويش» وغيرها من أعمال تجربة وجدانية وروحية للفنان، ويذكر أن عائلة سعيد الثرية كانت تسكن بالقرب من مسجد أبي العباس المرسي في مدينة الإسكندرية، وهو واحد من أصحاب التجارب الروحية الكبار، وكان لذلك الأمر بطبيعة الحال أثره الحاسم والواضح في التوجه الفني للفنان، وقد ذكر العديد من المؤرخين والنقاد أن سعيد قد اشتغل طوال رحلته الفنية على الموضوع الديني، فأخذته فكرة الموت والآخرة والتصوف والتعبد وقد برز ذلك في العديد من لوحاته الأخرى، فإلى جانب «الدراويش»، هنالك لوحات ذات قيمة فنية عالية هي الأخرى والتي يتضح فيها الجانب الروحي مثل: لوحة «الدفن» 1926، و«الصلاة» 1934، و«الذكر» 1936، و«المصلى» 1941، و«دعاء المتعطل» 1946، واختتمها بلوحة «المقرئ في السرادق» 1960.
تعد لوحة «الدراويش»، من أعمال سعيد المبكرة، ويظهر فيها ستة من «دراويش المولوية» بملامح متشابهة وملابس متماثلة مع فروق في وضعية كل منهم أثناء أداء الأذكار الدينية في العصور العثمانية، وعلى الرغم من أن المشهد في اللوحة يبدو ساكناً فإنه في حقيقة الأمر يضج بالحركة والحوارية المتبادلة بين الأشكال والكائنات في العمل، ففي اللوحة يستطيع الناظر أن يرى بوضوح لجوء الفنان إلى اللعب بدرجات الألوان المختلفة في تداخل بديع؛ حيث يتبادل الفاتح والغامق التجاور بناء شكل من أشكال الحركة، وكذلك توظيف الضوء، الأمر الذي يظهر أن رقصة الدراويش تجري فعلياً أمام عين المشاهد، فوقوع الظلال على جلابيب الدراويش البيضاء، وكذلك التمركز المختلف لكل درويش عن الآخر، إضافة إلى الأضواء يجعل المشهد نابضاً بالحياة، مما يمنح العمل درجة كبيرة من الواقعية، وقد أبدع الفنان في عملية تدرج الألوان من الأحمر والأصفر والأزرق والأبيض والأسود، وصناعة تأثير كبير في المشاهد الذي سيجد نفسه محلقاً في عوالم روحية وجمالية.
*خصوصية
اللوحة تعكس غوص الفنان في الحياة ورصده لوقائعها وجماليتها، خاصة جوانبها الدينية، فقد طاف في حلقات الذكر وأنصت إلى الترتيل؛ حيث سيطرت عليه حالة من الألق والمدد الروحي، وتعكس اللوحة كذلك تجربة الفنان في التأمل في جماليات الوجود والكون والطبيعة، وتعد امتداداً لأعمال الفنان التي خصصها في تناول جوانب ومشاهد مختلفة من المجتمع، فقد اهتم في أعماله كذلك بالبسطاء من الفلاحين والصيادين فكانوا ضمن شخوص لوحاته، وكذلك كان للمرأة حضور كبير في تلك اللوحات، وكذلك المشاهد والمناظر الطبيعية والحياة في الأحياء الشعبية، الأمر الذي صارت معه أعمال سعيد قبلة أساسية للمفتونين بالشرق والمهتمين باقتناء الأعمال الفنية التي تجسد أجواءه، وعلى الرغم من أن هناك فنانين برزوا في هذا المجال مثل المستشرق الفرنسي جان ليون جيروم، الذي صور في أعماله الشرق بأجوائه الشعبية ومدنه وشوارعه ومناظره الطبيعية، فإن سعيد امتلك تجربة وخصوصية تمتاز بها أعماله لدى مقتني اللوحات من الأجانب؛ وذلك لكونه يصور الشرق بعيون شرقية تراه من الداخل، إضافة إلى القيمة الجمالية لأعماله التي تتجاوز النقل الحرفي الميكانيكي للطبيعة.
*مرجعيات
إلى جانب أن اللوحة تعكس الأثر العربي والإسلامي عند الفنان، فإنها تشير كذلك إلى تأثره بالمدارس العالمية، فقد رُسمت في مرحلة توظيف الأساليب الغريبة في الرسم، غير أن العمل يعد نموذجاً فريداً وبديعاً في عملية تمثل وهضم تلك التجارب والتيارات؛ حيث إن تجربة سعيد الجمالية هي نتاج تفاعل وتلاقح عدد من المرجعيات، فقد تأثر البناء التكويني لديه بعدة بمصادر كثيرة ومختلفة، شكلت في المحصلة النهائية تجربة لونية وجمالية مختلفة ومتفردة؛ حيث تأثر بفن التصوير الفرعوني والقواعد الكلاسيكية للفنون الأوروبية في عصر النهضة إلى جانب تأثره بدراسة القانون والتي أملت على أفكاره النظام وأهمية الالتزام به، وأصبح سعيد نموذجاً لتوظيف الأساليب الغربية، ويظهر ذلك الأمر جلياً في أعماله المتتالية التي أنتجها منذ منتصف العشرينات وحتى أواخر الثلاثينات، في ما شهدت فترة الأربعينات دفقاً فنياً مختلفاً؛ حيث ركز على البورتوريه واهتم فيه بإبراز العمق النفسي للشخصية، وبدقة الملامح، وتعبيرات الوجه، أما التحول الفني الكبير في حياة سعيد فقد كان في مرحلة الخمسينات من القرن الماضي؛ حيث اتسمت أعماله بالهدوء والتركيز على الضوء وتصوير المناظر الطبيعية.
*قيمة عالية
تم بيع لوحة «الدراويش» بقيمة 9 ملايين و350 ألف درهم إماراتي، في عام 2010 حسب ما أعلنت دار كريستيز للمزادات العالمية وكانت أغلى لوحة تشكيلية لفنان عربي، وكانت التوقعات المبدئية ما قبل المزاد قدرت بيعها بمبلغ يراوح بين 300 و400 ألف دولار.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"