الموت في بلدنا بألف خير

00:26 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. نسيم الخوري

ليس لهذا الحبر سوى طمأنة اللبنانيين المشتّتتين؛ بل وطمأنة الفارين من جحيم لبنان نحو أقطار العالم، ومن يوضّبون منهم حقائبهم للاصطياف، لكون لبنان «الوجهة السياحية الأولى لدول الخليج والدول العربية» وفقاً لتصريح السفير الكويتي عبد العال سليمان القناعي بعد انتهاء مهمّاته الدبلوماسية، وخصوصاً رغبة الكثير من الكويتيين في المجيء إلى لبنان للاصطياف، وأضاف: «لا تعتلوا هم، فأنا لم أجد مكاناً لابني على الطائرة ليأتي إلى لبنان لقضاء أسبوع».
 نقول: أهلاً وسهلاً، وإذا خفتم من متغيّرات في طبيعة أطباقنا، فإننا انتهينا من الانتخابات البرلمانية المنسوخة، ونفّضنا أطباقها الراقصة بالعملات الخضراء، وإنّنا نطمئنكم بأنّ حسابات التغيير عندنا بعيدة جدّاً عن حسابات البيادر العتيقة في مصيفكم المعشوق لبنان.
 لماذا؟ لأنّ أجيالاً تحرّكت لتُخرجنا من الزوايا والمحن، لكنّ شرائط فولاذية هائلة تربط حكّام لبنان وطوائفه حول طبق واحد، خلافاً لما يظهر لديكم من بعد. لم يتغيّر شيء سوى رشّة ملحٍ بسيطة لبعض الشابات والشباب الذين دخلوا طبق البرلمان بالأهازيج، وما زالت الطريق وعرة وطويلة، كي نحدّثكم ونكتب لكم عن لبنان المستقبل الذي به نحلم.
 لبنان الرسمي التقليدي قاعد أبداً فوق عتبة لبنان، ينتظر قدومكم وافدين وسائحين إلى لبنان الصيف بالملايين، ويتلهّف لاستقبالكم على الرغم من مديونياتنا الهائلة. بشرّتنا الدولة إيّاها بأنّ المطاعم والمقاصف والمراقص والفنادق ولبنان مسكون بفكرة الضيافة والسياحة أبداً، وبشّرتنا بأنّ أبرز قراراتها السياحية هو «الفوترة» بالدولار الأمريكي لربّما يصبّ في ديارهم وتجّارهم مليارين أو ثلاثة مليارات ولن يشم المواطن اللبناني العادي، اتّقاءَ من أهوال الأمراض المستعصية، وفقدان الأدوية، والتهويل بإضرابات المستشفيات، وهي لن تحل إضرابات الموظفين في القطاع العام والخاص، وفراغ الإدارات والشوارع والساحات؛ حيث لا طاقة لمن بقوا هنا بتعبئة سياراتهم بالوقود بعدما تجاوزت تنكة البنزين الحدّ الأدنى للأجور.
 سيتفرّجون عليكم؟ قطعاً من النوافذ و«السطوح المشلّعة» لا عبر الشاشات المعتّمة. أتمنى أن تعذروننا إذا ما رأيتم طوابير الجائعين والمتسوّلين والمعتدين حيثما حللتم، وخصوصاً طوابير الأطفال وكبار السن؛ إذ سترونهم صفوفاً أمام أكوام القمامة في الشوارع أو في مكبّات تحيط ببيروت.
 نحن نقاتل أوضاعنا رغماً عنّا بكلّ فصولها. قد نفهم ملوك الطوائف وهم ينفّضون أذيالهم من جماهيرهم الانتخابية لاستقبالكم، لكننا لم نفهم مرشحين هاجروا من محافظة إلى أخرى حاملين طوائفهم وثرواتهم المستترة، للدخول إلى البرلمان، ومتابعة النضال الثوري الذي صمّ آذاننا، ولن نفهم ما قالته زوجة مرشّح: «شبعنا نضالاً، غداً يصير زوجي نائباً وتتدفق الخيرات، وسنترك النضال لغيرنا لنسوح نحن في بلاد العالم. لبنان ما عاد ينسكن».
 غداً سنرى الفنادق «مشعشة» في الداون تاون وغيرها، لكننا كيف نُفهم أولادنا في أرجاء العالم المهووسين بتحويل ما تيسّر من أموالهم تأميناً لذويهم في جمهورية العتمة.
نعم جمهورية العتمة منذ نصف قرن (سأصفها في نصّ قادم). ليتني أنقل صورة الناس فوق سطوح لبنان والمجمعات وهم يرفعون ألواح الإنارة الشمسية والاستغناء عن الجمهورية التي خزّن زعماؤها وتجّارها ثروات هائلة من المولدات والمحروقات، ونراهم يتحوّلون اليوم لقطاف الشمس وبيع كهرباء لبنان، وتبرز القطب المخفية في صرّة التفاهم على ثروات الغاز والبترول عنوان لبنان اليوم والمفاوضات المتجددة مع إسرائيل.
 قد نفهم ترضية خواطر المرشحين المنسحبين أو الراسبين بمال مستورد أو بنيل ابتسامة زعيم طائفي أو بطلّة تلفزيونية أو بمنصب موعود آتٍ، لكننا لم ولن نفهم حال أطباء ومهندسين تدخلتّ بشأن ترشيحهم دول كبرى، بعدما قضوا جزءاً كبيراً من حياتهم يقيمون بين غرف العمليات والجامعات وبين بيوت السياسيين.
 قد يفهم أحدنا قصص الثروات الهائلة عبر «كوبونات» البنزين وأجهزة الخلوي التي وزعت كما صناديق الأغذية إلى أقصى حدود الخجل، إلى قصص الملايين التي دفعت نقداً، لقبولهم في بعض اللوائح، ناهيك عن صناديق الدولارات الكرتونية وتوزيعها ب100 دولار للصوت الواحد، و150 دولار للسيارة المتحركة المملوءة بالبنزين سلفاً. كان يعلو السعر مع نهايات النهار الانتخابي، بحثاً عن الجائعين الذين قبضوا ولم يقترعوا أو اقترعوا لمرشح أو للاّئحة المنافسة وهنا تكمن أعشاش الجرائم.
 قد نفهم معنى تجميع البطاقات الانتخابية وشرائها وحجزها، لكننا «نطمئن الناس» أنّ هناك هيئة عليا لبنانية لمراقبة الانتخابات في لبنان أختصرها بكلمة واحدة، فارغة من مضامينها تقي عيوب الدولة، ومختصرها أنّ لبنان وطن نهائي لجميع اللبنانيين والموت في بلدنا بألف خير لكنّ الديمقراطية المستوردة ما زالوا يلفظونها هنا بالكاف أو بالآف لا بالقاف.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"