عودة إلى إريك رولو

00:27 صباحا
قراءة 4 دقائق

بدا الصحفي الفرنسي إريك رولو مأخوذاً بحميمية الاستقبال الذي كان بانتظاره في مطار القاهرة الدولي مدعواً صيف 1963 لإجراء تحقيقات ميدانية لصالح صحيفة «لوموند»؛ إحدى أكثر الصحف العالمية نفوذاً وتأثيراً.
بدت الدعوة نفسها مثيرة وملغزة أمامه، فهو يهودي مصري الأصل نُفي قبل ثورة يوليو بشهور قليلة إلى فرنسا على خلفية نشاطه اليساري.
لم يكن مسموحاً له بزيارة القاهرة، ولا أي عاصمة عربية أخرى، على الرغم من أن عمله مديراً لقسم الشرق الأوسط في الصحيفة الفرنسية الشهيرة، يقتضي المتابعة عن قرب لحركة الحوادث العاصفة.
كان هناك في القاهرة من يتابع ما يكتبه من تحقيقات ومقالات تتبنّى المعارك التي تخوضها ثورة يوليو في نصرة حركات التحرير الوطني في العالم العربي والقارة الإفريقية، ورأى أن مصلحة البلد تقتضي فتح قنوات حوار معه على الرغم من أنه لم يكن يرى مبرراً ل«مصادرة الحريات العامة، وخرق ما يسمى في أيامنا هذه، بحقوق الإنسان».
أراد رولو دوماً أن يسأل ويتقصّى «أوضاع المعتقلين الشيوعيين في مصر» ومتى يفرج عنهم، لكن لم تكن لديه فرصة حوار من قريب أو بعيد. لماذا الآن؟ قدّرَ أن مصر تريد أن تطوي صفحة الصراع مع فرنسا بعد استقلال الجزائر، وأن تفتح أبوابها أمام أكثر الصحف الفرنسية تعبيراً عن سياسات ومواقف الرئيس شارل ديغول، لإذابة الجليد بين البلدين.
وقع الاختيار عليه باقتراح من الكاتب اليساري المعروف لطفي الخولي، الذي التقاه في باريس ليدعوه باسم الأستاذ محمد حسنين هيكل، رئيس تحرير «الأهرام» إلى أن يزور القاهرة.
إدارة التحرير في «لوموند» أبدت حماسها للعرض المصري وأصرّت في الوقت نفسه، على أن تتكفل وحدها بتكاليف السفر، وفق التقاليد المهنية المتعارف عليها.
بشهادة وزير الخارجية الجزائري الأسبق الأخضر الإبراهيمي، الذي كان سفيراً للجزائر في ذلك الوقت في العاصمة المصرية: «رولو أولاً وقبل كل شيء صحفي همه الرئيسي أن يفهم القضايا التي يكتب فيها فهماً كاملاً وموضوعياً».
مرة بعد أخرى أبدى خشيته من أن تفرض عليه أي قيود في تحركاته وتصرفاته طلباً لحياديته وموضوعيته المهنية، أن يكتب ما يعاين بنفسه، سواء اتفق ما يتوصل إليه من استنتاجات مع آراء الحكم في مصر أو لم يتفق.
«إن هيكل يفكر بنفس الطريقة ويفضل التعامل مع الشخصيات المستقلة التي تتمتع بحرية التفكير». هكذا أخبره الخولي، وهو ما أكدته الأيام التالية.
مساء اليوم التالي لوصوله إلى القاهرة التقى هيكل، وطرح عليه تصوراته وتساؤلاته وما ينوي أن يسأل عنه الرئيس  إذا كان الحوار معه ممكناً  من قضايا محرّمة أولها ملف المعتقلين، وما يتعرضون له من انتهاكات لحقوقهم الإنسانية.
في ذلك اليوم البعيد كان تقديره، كما كتب في مذكراته «في كواليس الشرق الأوسط»: «إن المعتقلات تحجب الجوانب الإيجابية في سياسة الحكومة المصرية في أعين الرأي العام العالمي».
فوجئ بأن هيكل الذي وصفه بأنه رجل حاد الذكاء، وافقه على تحفظاته بوضوح كامل. الرجلان هيكل ورولو من جيل واحد: الأول من مواليد 1923، والثاني من مواليد 1926.
في زمن متقارب دخلا العمل الصحفي عبر جريدة ال«إيجيبشيان جازيت» التي كانت تصدر بالإنجليزية في القاهرة. هيكل غطى حرب العلمين (1942) قبل أن ينتقل إلى «آخر ساعة» التي كان يترأسها أستاذه محمد التابعي، ورولو انضم إليها 1943 لتغطية قصص وأخبار سياسية واجتماعية قبل أن ينتقل إلى «لوموند» بعد فترة قصيرة من البطالة في المنفى الباريسي!
كان رولو يكتب في «الجازيت» باسمه الأصلي إيلي رافول، قبل أن يتفرنس بالكامل ويطلق على نفسه الاسم الذي عُرف به. في لقائه الأول مع عبد الناصر أخذته بساطة منزله المتواضع نسبياً وأثاثه الذي يشبه بيوت الطبقة الوسطى في حي مصر الجديدة، الذي ولد وعاش فيه لأكثر من عشرين سنة.
التبسط بلا افتعال غلب على اللقاء الأول حتى خيّل إليه أن الجوّ العام مناسب لطرح سؤاله الأكثر حساسية بين أسئلة أخرى كثيرة؛ سؤال المعتقلين السياسيين.
كان عبد الناصر يتوقع السؤال، ربما خططت الزيارة كلها للإجابة عنه. أجابه: «قررت الإفراج عن جميع السجناء السياسيين قبل نهاية هذا العام». جملة صريحة ومقتضبة دوّت في العالم كله من فوق منبر «لوموند». و«حين أنظر في الماضي أدرك أن إغلاق المعتقلات لم يكن سوى إجراء بين إجراءات أخرى تنم عن رغبة عبد الناصر في طي تلك الصفحة.. أو أنها خطوة منطقية في تسلسل الإصلاحات التي تعمل على تجديد النظام وتقويته».
بعد أن أغلقت المعتقلات بالإفراج عن الشيوعيين المصريين فتحت من جديد ل«الإخوان» المسلمين عام 1965 إثر إجهاض مخطط ما يعرف بتنظيم «سيد قطب» لإحداث فوضى شاملة في البلاد.
بعد ذلك الحوار الاستثنائي الذي أجراه رولو مع أكثر الزعامات العربية نفوذاً وشعبية وتمثيلاً للفكرة القومية العربية، أسبغت عليه شرعية من نوع فريد مكّنته من أن يزور كل دول الشرق الأوسط بلا حساسيات، وفتحت أمامه كل الأبواب الموصدة، وربطته صداقات وصلات حوار مع الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، والملك الأردني حسين، والعقيد الليبي معمر القذافي، والرئيسان السوري حافظ الأسد، والعراقي صدام حسين.
تجربة حوار «رولو» قبل نحو ستة عقود تستحق المراجعة واستخلاص الدروس، إذا ما أردنا اليوم في الحوار الوطني المرتقب، أن نخاطب العالم باللغة التي يفهمها؛ أن يكون لدينا ما نقوله والحديث داخل مباشرة إلى موضوعه: «الإفراج عن كل معتقلي الرأي الذين لم يحرضوا على عنف، أو تلوّثت أياديهم بالدماء».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"