مـأسـاة صناعة الكتـاب

00:00 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبد الإله بلقزيز

بيعَ في ألمانيا من الكتب، في العام 2021، 273 مليون كتاب على الرّغم ممّا عَرَض لصناعة الكتاب من مشكلات لا حصر لها، تولّدت من جائحة كورونا ومن مخلّفاتها (الإغلاق، توقّف العمل...). المعلومات أوردها «مركز مراقبة وسائل الإعلام في ألمانيا («ميديا كونترول»)». والمَبيع من الكتب مَبيعٌ لنُسخٍ من مليون كتاب منشور في ألمانيا، مع تفاوُتٍ - بالطّبع - في نسبة المَبيع من كلّ كتاب.
  قد يُخفي رقم المبيعات الهائل رقْمَ المنشور من الكتب (مليون كتاب في العام الواحد). الرّقمُ هذا قرينة على فاعليّتيْن هائلتين في ألمانيا: التّأليف (والتّرجمة استطراداً) والنّشر. تقاليد الكتابة والتّأليف عريقة في ألمانيا، ويصدق ذلك على التّرجمة. لكنّها تتعاظم مع الزّمن بتعاظُم المؤسّسات العلميّة والثّقافيّة فيها، بل هي تبلغ، اليوم، معدّلاتٍ قياسيّةً بالنّظر إلى نسبة مَن يؤلّفون ضمن إجمالي ساكنة ألمانيا. أمّا النّشر وصناعة الكتاب فمن أكثر قطاعات الإنتاج ازدهاراً في البلاد، وألمانيا عُرِفت عند ناشري العالم كافّة بكونها بلد تصنيع أجود أجهزةِ الطّباعة. والحقيقتان هاتان ترفعان كلَّ إبهام عن هذا التّفوُّق الهائل في نشر الكتاب وتسويقه.
  يَحْدث هذا الفيض في عدد المقروء على الرّغم من آثار الجائحة، وعلى الرّغم من تراجُع نسبة الإقبال على الكتاب في العالم جرّاء هيمنة الفضاء الإلكترونيّ على القرّاء. وهذا إنّما يَدُلُّنا على المكانة التي تحتلّها صناعةُ الكتاب في سياسات ألمانيا، وحجم استثمارات الدّولة والقطاع الخاصّ في قطاع النّشر. وهو استثمارٌ ما كان ليكون ويُغامَرَ به لولا أنّ هناك طلباً مجتمعيّاً على الكتاب. والطّلب هذا يَرُدُّ بدوره إلى سياسة تعليميّة ناجحة تربّي على اكتساب عادة القراءة واقتناء الكتاب. هي، إذن، سلسلة متّصلة الحلْقات يأخذُ بعضُها إلى بعض ضمن برنامجٍ شامل للتّنميّة المعرفيّة والثّقافيّة.
   والمفارقة، بالنّسبة إلينا، أنّ هذا المنتوج الهائل من المنشورات في ألمانيا يحدث في بلدٍ لا يتجاوز عدد سكّانه الأربعة وثمانين مليون نسمة (أقلّ من عدد السّكّان في مصر بقرابة العشرين مليون)، فيما لا يُنتِج العالم العربيّ برمّته نسبةَ الواحد من الألف من منتوج ألمانيا من الكتب، مع أنّ ساكنة البلاد العربيّة (438 مليون) تمثّل خمسةَ أضعافٍ ونصف ساكنةَ ألمانيا! وإذ تعبّر الأرقام عن هذا الفارق المَهُول - بل الخرافيّ - بين العالميْن الألمانيّ والعربيّ على صعيد الإنتاج الثّقافيّ وصناعة الكتاب، يجد ذلك الفارق تفسيرَه في فارقٍ آخر يشبهه؛ هو الفارق بين السّياسات الثّقافيّة هناك والسّياسات الثّقافيّة هنا.
 نتحدّث، هنا، عن سياسات ثقافيّة عربيّة على سبيل المجاز، أو الفَأْل الحَسَن، لأنّه لا توجد في بلادنا العربيّة - على الحقيقة - سياسةٌ ثقافيّة، وما من أحدٍ يعنيه أمرُها ممّن يديرون الشّؤون العامّة. آيُ ذلك أنّ وزارات الثّقافة في العالم العربيّ هي الأفقر في الموارد الماليّة من سائر الوزارات؛ حيث تكاد أن تكون اعتماداتها الماليّة من موازنة الدّولة أشبه ما تكون بميزانيّة نادٍ من نوادي كرة القدم الكبيرة في بلادنا! وإلى هذا فهي الوزارة التي تكاد الأحزاب لا تتنازع على «حقيبتها» أثناء تشكيل الحكومات! لأنْ لا شيء يُستَفاد به منها، ناهيك بأنّ داخلَها من المسؤولين سيَخْرُج منها مُشيَّعاً بالنّقد على هزيل الحصيلة بعد انتهاء ولايته. هذا وحده يكفي ليُطْلِعَنا على المكانة القَزميّة الهزيلة التي تحتلّها الثّقافة في السّياسات العامّة لدى المعظم من الدّول العربيّة.
  لو استثنينا بلداناً عربيّة قليلة، مثل الإمارات العربيّة المتّحدة ومصر وسلطنة عُمان (والعراق قبل احتلاله وسوريّا قبل الحرب عليها)، لا نجد غيرها ممّن يشجّع الإنتاج الثّقافيّ وصناعة الكتاب ويدعم المؤسّسات الثّقافيّة. حتّى الخواصّ من أصحاب المال والاستثمارات في العالم العربيّ لا يُغريهم في شيء الاستثمار في قطاع النّشر، لأنّهم يزنونَه بميزان الأرباح والعائدات، ولا يعنيهم ما يعني البرجوازيّات الغربيّة من خَلْع مسحةٍ اجتماعيّة عليها، من طريق إنشاء مؤسّسات ثقافيّة وإحداث دور نشرٍ أو رعايتها. 
الكثير الكثير من دور النّشر والمكتبات أَقْفَلَ (مثل دور السّينما)، والقليلُ القليلُ منها فَتح حتّى أنّ مقصِد النّاس لابتياع الكتب - ومقصِد الدّور لبيْعها - بات موسميّاً (مَعارض الكتب)؛ هذه التي توقّفت في معظم بلادنا العربيّة منذ عاميْن. ولكنّ الأَطَمّ من طامّة نُدرة المكتبات ودور النّشر أنّ الأعمّ الأغلب من البلاد العربيّة لا يَحوي مراكزَ لمَعارض الكتب خاصّة، فتراها تتنقّل من مكانٍ لآخر، أو تَعْرض في مركزِ مَعارض يصْلُح لعرض أيّ شيء آخر.
كيف للكتاب والتّأليف أن يُونِع ولصناعة الكتاب أن تزدهر إذن؟!
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"