جوليان أسانج والمسارات الغامضة

00:29 صباحا
قراءة 3 دقائق

يموج عالمنا اليوم بتحولات عميقة منها ما يخفى لينضج تحت سطح الأحداث، وأقلها ما يطفو على السطح ليراه الجميع، وربما ليعمي الأعين عما يدور في الخفاء، وإمعاناً في التغطية يُبدي العالمون ببواطن الأمور الدهشة والصدمة حتى لا ندرك ما تموج به الأرض من تحتنا، أو نعي حركة التغيير الدؤوب، بعدما احتلت العولمة مكاناً محورياً في نقاش السياسات الدولية، وكانت لها تجاذبات وصراعات أفكارها الشاملة في التحقق الممكن والضروري للتواصل السياسي في كافة العلاقات بين الدول التي تتحول إلى واقع. أصبحت الوثائق في مدار التهديد الجغرافي والديموغرافي والاقتصادي والاجتماعي بفعل مسارات هذه المستندات.
 ولعل معجزة الفوضى تكمن ها هنا في الطريقة التي اختارها جوليان أسانج لأرشيفه ليس من سوداوية نهاية قصة؛ بل من النهاية المأساوية التي قرر هو اختيارها كنهاية لحياته، في محاولة دائمة لإثارة الدهشة والتساؤلات، وما أكثرها.
 خاصة عندما نشر آلاف الصفحات التي تكشف أحداثاً تخص دولاً وحكومات وأشخاصاً كانت طيّ الكتمان، مُدللاً عليها بصور ووثائق تفضح ما جرى من حوادث تخضع لقانونية التوثيق وأسرار الدول.
 لقد شغل المدون أسانج العالم لأكثر من عقد من الزمان من خلال كشفه لوثائق سرية كانت تحتفظ بها الولايات المتحدة في خوادم الإنترنت الضخمة، وهذه الوثائق لا تخص الولايات المتحدة فقط؛ بل تخص دولاً وحكومات وأفراداً كثيرين في مختلف مناطق العالم، وقد كشف هذا العمل مدى الرقابة الأمنية التي تفرضها الولايات المتحدة على العالم من خلال الإنترنت وتطبيقاته، فكل رسالة يتم إرسالها من خلال معظم تطبيقات الكومبيوتر أو الهاتف النقال، تذهب إلى الخادم الرئيسي في الولايات المتحدة لتستقر هناك، ومن ثم يعاد إرسال نسخة عنها إلى الجهة المقصودة. وبهذه الطريقة تستطيع الأجهزة الأمنية الأمريكية جمع معلومات عن مختلف الدول والشعوب سواء أكانت سياسية، أو اقتصادية، أو حتى فنية وغيرها من المجالات التي لا يمكن حصرها، بسبب استهداف أبسط التصرفات التي يقوم بها البشر.
 وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة تراقب بصمت، ولم تُظهر أنها تدخلت في منع إرسال رسالة، لكن هذا العمل الرقابي يعارض مبدأ الشفافية والخصوصية المرتبطة بالأخلاق والتي تتعارض مع الخصوصية التي تلتزم به الحكومات الديمقراطية. ومع ذلك فقد أثار كشف عملية التجسس الكبرى تلك، ثائرة الولايات المتحدة وقررت الاقتصاص من أسانج، وفجأة في عام 2010 أصدر القضاء السويدي مذكرة اعتقال دولية بحقه بتهمة الاغتصاب والتحرش الجنسي، فتم توقيفه من قبل القضاء البريطاني، فقدم كفالة وخرج من السجن، ولجأ إلى سفارة الإكوادور طالباً للجوء السياسي، لكن الإكوادور، بعد ضغوط أمريكية، سمحت للشرطة البريطانية باعتقاله. ومؤخراً أصدرت المحكمة البريطانية العليا قراراً بتسليمه إلى الولايات المتحدة، وقد أعلنت وزارة الداخلية البريطانية يوم 17/6/2022 موافقتها على تسليمه إلى الولايات المتحدة، وقد تم نسيان التهمة الأساسية الموجهة إليه، وظهرت تهمة جديدة وهي «التآمر من أجل الحصول على معلومات تتعلق بالدفاع الوطني وإفشائها».
 ويقول أسانج إن الولايات المتحدة تريد إعدامه، وبغض النظر عن هذا الأمر، فإن قضية هذا المدوّن لا ينبغي أن تمر مرور الكرام، فما كشفه من وثائق كانت مخزنة في الخوادم الضخمة ما يدعو إلى إثارة الأسئلة عن جواز القيام بهذا الأمر من قبل السلطات الأمريكية أم لا، خاصة أن تلك الوثائق المسربة لا تخص الولايات المتحدة فقط؛ بل تخص العديد من الدول والأفراد والزعماء والشركات، من مناطق مختلفة من العالم.
 إن هذه القضية ينبغي أن تدفع دول العالم للمطالبة بجعل الإنترنت تحت رقابة دولية، من أجل ضمان عدم انفراد دولة باحتكار هذه الخدمة المهمة جداً للتواصل الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في العالم. ومؤخراً، ظهرت دعوات لقطع الخدمة عن روسيا بسبب الحرب في أوكرانيا. ومنذ سنوات سابقة طالبت بعض الدول مثل، الهند والصين بجعل خدمة الإنترنت تحت رقابة دولية، لكن تم تجاهل تلك الدعوة، واتجهت الصين لإنشاء شبكة إنترنت خاصة بها، وببرامج لا ترتبط بأي صلة بغوغل وغيره من محركات البحث التي تشغلها الشبكة الرئيسية. واستطاعت الصين من خلال ذلك منع التجسس عليها بشكل كبير جداً. لكن وماذا عن بقية دول العالم، لذا لا بد من وضع الشبكة الإلكترونية تحت إدارة دولية، وقد بات هذا مطلباً ملحاً في ظل استفحال العداء بين الأقطاب الدولية الكبرى المتصارعة للفوز بحكم العالم لألف سنة قادمة. وهذا المطلب يضمن حصول كل دولة على حقها من جراء هذه الخدمة، كما يمنع التجسس أو يحد منه إلى أقصى درجة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي وكاتب إماراتي، يشغل منصب المستشار الإعلامي لنائب رئيس مجلس الوزراء في الإمارات. نشر عدداً من المؤلفات في القصة والرواية والتاريخ. وكان عضو اللجنة الدائمة للإعلام العربي في جامعة الدول العربية، وعضو المجموعة العربية والشرق أوسطية لعلوم الفضاء في الولايات المتحدة الأمريكية.

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"