حيرة ماكرون

00:05 صباحا
قراءة دقيقتين

نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة في فرنسا تؤكد، مرة أخرى، أنه لا يمكن التعويل على توقعات استطلاعات الرأي السابقة لأي انتخابات في بلد تتوفر فيه مقادير مقبولة من الممارسة الديمقراطية. يمكننا القول هنا: «كذبت الاستطلاعات حتى وإن صدقت».
السبب بسيط ومعقد في الآن ذاته، بسيط لأن الاستطلاعات تبنى عادة على آراء عينات مختارة بشكل عشوائي، أو قريب من العشوائية، ومهما تنوعت أمزجة وأهواء أفراد هذه العينات، لتبدو كأنها تعكس التنوع القائم في المجتمع المعنيّ، فإنها تظل أقل وأضيق من أن تعبّر عن آراء كامل الكتلة الانتخابية المفترضة في ذلك المجتمع، وهو معقد لأن استطلاعات الرأي لا تغوص في ما يعتمل داخل المجتمع من تغيرات وتحولات عميقة، لا ترصدها الإحصاءات حتى وإن بدت دقيقة.
عشية الانتخابات الفرنسية توقعت استطلاعات الرأي أن حزب الرئيس إيمانويل ماكرون سيحرز أغلبية، حتى لو كانت بسيطة، تُمكن الرئيس من أن يدير القادم من سنوات ولايته الثانية بحرية واطمئنان، وصحيح أنها توقعت أن تحالف اليسار بزعامة جان لوك ميلونشون سيشكل منافساً حرجاً لحزب الرئيس، لكن هذه الاستطلاعات للرأي لم تتوقع أن الحزب اليميني المتطرف بزعامة مارين لوبان سيحصد 89 مقعداً في البرلمان الجديد، متقدماً بأكثر من ثمانين مقعداً على حصته في البرلمان السابق التي لم تتجاوز ثمانية مقاعد، ولنا أن نتخيل ما يعنيه هذا الصعود الصاروخي لحزب لوبان، ليس على صعيد اللحظة الراهنة، وإنما على المستقبل الفرنسي المنظور.
حياة سياسية جديدة تنشأ في فرنسا وفي أوروبا عامة. اليمين بصورته التقليدية يتراجع بشكل ملموس لصالح اليمين الأشد تطرفاً والأقرب إلى الشوفينية القومية المتعصبة، ومثله يتراجع اليسار التقليدي، مع أن قوى اليسار الفرنسي تعاملت بحكمة وواقعية في هذه الانتخابات، واختارت أن تشكل ائتلافاً لا يخلو من التناقض بين أطرافه، ولكنه تمكن من إحراز نجاح ملموس، ما كان سيكون لو نزلت أحزابه هذه الانتخابات متفرقة.
ليس اليمين في صورته التقليدية وحده من تراجع. حتى الصيغة التوفيقية، التي تسمى بالوسطية- وهو تعبير عمومي وملتبس- والتي سعى حزب ماكرون لاتباعها ربما لإنقاذ اليمين من مأزقه، تواجه هي الأخرى، كما تدل نتائج هذه الانتخابات، مأزقاً. فالعبرة ليست في الوصف الذي يطلقه أي حزب على نفسه، وإنما في طبيعة البرامج والرؤى التي يطرحها والسياسات التي يسلكها، والتي لم تختلف في الجوهر عن السياسات المعتادة لليمين التقليدي.
طبيعي والأمر كذلك، أن يلجأ ماكرون الحائر، إلى الحزب الجمهوري، أي اليمين التقليدي، فلعل في ذلك مخرجه المناسب، إزاء تقدّم حزب لوبان، وقوى اليسار المتحدة في ائتلاف يفرض نفسه بقوة.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب من البحرين من مواليد 1956 عمل في دائرة الثقافية بالشارقة، وهيئة البحرين للثقافة والتراث الوطني. وشغل منصب مدير تحرير عدد من الدوريات الثقافية بينها "الرافد" و"البحرين الثقافية". وأصدر عدة مؤلفات منها: "ترميم الذاكرة" و"خارج السرب" و"الكتابة بحبر أسود".

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"