تحية وتقدير

23:27 مساء
قراءة 3 دقائق

د.باسمة يونس

يطرح كل كاتب على نفسه سؤالاً عما إذا كان عليه مراجعة كتابه الأول وتنقيحه ليصبح بنضْج كتبه الأخيرة، ولكن هل هو في الواقع بهذه السهولة؟.
هل يمكن أن يتراجع الكاتب عند وصوله إلى النضج الأدبي عن ذكرياته مع كتابه الأول لأنه يشعر بالندم على بعض الأخطاء فيه؟ ألا يشبه الأمر إعادة النظر في تنشئة طفل لم يحقق أحلام والديه بعد نضجه، فيفكرون بإعادة تربيته ليصبح كما يرغبون بدلاً من الاهتمام بأحفادهم مستقبلاً؟.
وماذا عن تلك السعادة التي عاشها أول مرة تمكّن فيها من ملء صفحات بيضاء بالكلمات، وأعاد كتابتها مراراً لتصنع عبارة، ومن ثم تصبح قصة يمكن أن تنشر؟، ألم يكن قضاء الوقت في الكتابة والتفكير بشكل الكتاب ومحتواه وعنوانه ثم تجهيز القصص للنشر هو أفضل ما يمكن القيام به؟ ألا تستحق تلك اللحظات أن تخلد فلا يمسها مشرط النضج ولا يهدم علاقته الحميمة بأول جهد بذله وأول رحلة انطلق فيها وهو لا يعرف مصيره معها؟. ألم تكن اللحظات التي يضع فيها اسمه على غلاف كتاب ويراه معروضاً في محلات بيع الكتب أو المعارض هي أسعد أوقاته على الإطلاق، فهو بعد كل شيء وبعد العمل الجاد تمكن من نشر هذا الكتاب ووضعه فوق رف المكتبة؟.
إن مجرد أن يصبح أمر الكتابة أسهل مع الممارسة لا يعني أن كل كتاب ينشره الكاتب بعد النضج هو النتيجة الحقيقية لأحلامه، فالكتاب الأول بكل ما فيه من أخطاء هو الذي صنع حياته اليوم وجعله مستعداً للخروج إلى العالم وتقديمه بصفته كاتباً.
بالنسبة لي كان إصدار أول مجموعة قصصية في حياتي أول شعور رائع أعيشه، بل ولا يمكن أن أوفيه حقه بمجرد إعادة وصف اللحظات التي شعرت فيها بأنني أسعد إنسانة على وجه الأرض؛ لأنني سأرى اسمي قريباً على غلاف كتاب، ولأن أفكاري النابعة من عالمي الخاص قد صنعت كتاباً يضعني في مصاف الكتاب.
كان أمراً خيالياً، وأكثر من مجرد تحقيق أمنية والسير خطوة نحو هدفٍ كان يبدو بعيداً، وطريقٍ يمتد بلا نهاية، رغم اعتقادي بأنه سيقصر بعد وضعي قدماً فوقه، لكنه هدف جميل وترقب لنتيجة إيجابية أنتظرها بفارغ الصبر.
لقد قرأت كثيراً عن كتاب يعترفون بشعورهم بالندم على أول كتاب نشروه، ويعيدون كتابته بأدوات ناضجة وتقنيات صحيحة في الكتابة، وآخرين يتمنون لو يعود بهم الزمن أدراجه فيعيدون كتابته بطريقة مختلفة واهتمام أكبر، وقد يفعلون ذلك، لكن البعض يجدون القيام بمراجعة بسيطة ذنباً لا يغتفر، فالكتاب الأول هو أفضل مقدمة لحياة الكاتب، وأهم حقيقة لا يمكن إنكارها والخطوة التي صنعت منه كاتباً.
ورغم كل شيء لا يمكنني إنكار مقاومتي إغراء الشعور بإعادة كتابة أول كتاب، أو على الأقل مراجعته وتنقيحه والتصرف في بعض المواقع التي أرى الخلل فيها بعين أدق. لكنني لا أجرؤ على المزيد من ذلك كي لا أسلب كتابي الأول حقه في البقاء بريئاً، وكي لا أسلب ذاكرتي تلك اللحظات السعيدة التي أتوقف دائماً عندها، وأستعيد المواقف التي ارتبطت فيها بعلاقة حميمة مع كل قصة كتبتها، ومع كل صورة التقطتها ذاكرتي لمستقبلي ككاتبة.
إن الوقت الذي قضيته في إعادة نسخ القصص ومراجعتها وتنقيحها ناهيك عن ابتكار عناوينها بمنزلة العلاقة الأولى بيني وبين نفسي، ومن ثم الاستعداد للخروج أمام القراء وتقديمي لهم بصفة كاتبة، وأول كتاب يخرج للحياة بعد العمل الجاد هو الذي يستحق التقدير أكثر من أي عمل آخر يصبح صدوره متوقعاً وأكثر سهولة وانسيابية.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​كاتبة ومستشارة في تنمية المعرفة. حاصلة على الدكتوراه في القيادة في مجال إدارة وتنمية المواهب وعضو اتحاد كتاب وأدباء الإمارات ورابطة أديبات الإمارات. أصدرت عدة مجموعات في مجالات القصة القصيرة والرواية والمسرح والبرامج الثقافية والأفلام القصيرة وحصلت على عدة جوائز ثقافية.

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"