التضخم في الدول السبع الكبرى

00:03 صباحا
قراءة 3 دقائق

في هذا القرن، تحقق إلى جانب التقدم الاقتصادي والتكنولوجي، التقدم الكبير في مجال التعاون. واستطاع الخطاب الاقتصادي الليبرالي، بين مختلف الدول، أن يشكل نافذة إلى مستقبل إنساني يسوده السلام. ولكن نتيجة للاستحواذ والهيمنة اختلطت الأمور، وظهرت الهوة السحيقة بين التنظير المثالي الليبرالي لما ينبغي أن يكون عليه السياسي، والواقع الفعلي الممارس، وفق المنطق البراغماتي، ما أدى إلى معاناة كافة الدول، ومنها الدول السبع التي توصف بأنها الأكثر تصنيعاً، والأغنى في العالم، من تضخم اقتصادي غير مسبوق منذ ما قبل تأسيس هذه المجموعة من قبل الولايات المتحدة، ووقوع جميع دول المجموعة في نفس الأزمة، يؤكد أن سببها واحد.
 لقد عزا بيان وزراء مالية دول المجموعة، في اجتماعهم في ألمانيا، مؤخراً، سبب التضخم إلى الحرب التي تشنها روسيا على أوكرانيا، والتي تسببت، في زيادات كبيرة في أسعار المستهلكين، وأسعار الطاقة والغذاء، ولكن التضخم بدأ في الولايات المتحدة منذ نهاية العام الماضي؛ حيث ارتفعت أسعار السلع إلى مستويات غير مسبوقة، ومن ثم بدأت كل دول المجموعة الأخرى تعاني التضخم، ما يدل على أن مكمن العلة في الاقتصاد الأمريكي الذي يقود اقتصادات تلك الدول.
 وعلى الرغم من أنه تم إنشاء تلك المجموعة لتمثل الواقع الاقتصادي الحقيقي في العالم، باعتبار أن الاتحاد السوفييتي السابق، والدول الاشتراكية الأخرى كان لها اقتصاد اشتراكي مختلف، ولم تكن تتعامل بالنقد إلا قليلاً، وبالتالي كانت الدول السبع هي التي تمثل تجليات الاقتصاد الرأسمالي؛ حيث كانت بالفعل الأكثر تصنيعاً وإنتاجاً والأكثر تطوراً، فإن العالم اليوم قد اختلف اختلافاً كبيراً عمّا كان عليه قبل نحو خمسين سنة، فهناك دول كثيرة باتت تنتج ما يماثل، أو أكثر مما تنتجه الدول السبع؛ بل إن دولاً في هذه المجموعة تعاني إفلاساً مقنّعاً مثل إيطاليا وفرنسا، وحتى اليابان لم تعد ذلك النموذج الاقتصادي المبهر في العالم، فقد انزاح الإنتاج الصناعي إلى مناطق أخرى، فأصبحت الصين هي مصنع العالم، وهي تنتج بقدر دول المجموعة كافة بدليل أن بضائعها دخلت إلى كل بيت في المعمورة، وحتى في قلب دول المجموعة ذاتها.
 وقد رفضت الولايات المتحدة ضم الصين إلى المجموعة بحجة أن ثرواتها أقل نسبياً من أعضاء المجموعة، وفقاً لحساب نصيب الفرد من ثروات البلاد، غير أن هذه الحجة غير منطقية، وهي تخفي السبب الحقيقي، وهو أن الصين باتت تهدد عرش الولايات المتحدة كمهيمنة على الاقتصاد العالمي، ومن ثم القرار السياسي في المنظمات الدولية الحاكمة، كمجلس الأمن والأمم المتحدة. وإذا انضمت الصين إلى تلك المجموعة، وهي جديرة بذلك، فإنها ستطّلع على الأسرار الاقتصادية لدول المجموعة، وقد تحل محل الولايات المتحدة مستقبلاً كمهيمن على المجموعة؛ لذلك لا يمكن دعوة الصين للانضمام للمجموعة، كما أن روسيا قد تم ضمها فترة، ومن ثم أبعدتها الولايات المتحدة في أعقاب ضمها لمنطقة القرم.
 واليوم، وفي ظل تغير موازين القوى الاقتصادية في العالم لمصلحة دول أخرى غير دول مجموعة السبع، فإن ارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية في تلك الدول هو نتيجة حتمية لذلك التغير الذي حدث، فلم تعد الدول السبع الكبرى تنتج إلا جزءاً بسيطاً من إنتاج العالم، وهي في معظمها بحاجة إلى استيراد الطاقة، والمواد الخام الأولية المستخدمة في الصناعة من دول أخرى، وليس لديها إمكانية لتغيير أوضاعها، كما أنها تتمسك بمركزها، وتعلن أنها لا تزال الدول الأكثر تصنيعاً في العالم.
 والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، كيف ستتعامل هذه الدول مع موضوع التضخم الذي يلتهم اقتصاداتها، وهي تعرف، قبل غيرها، أنه لا يمكنها تغيير الواقع؛ بل عليها المضي قُدماً وأن تتقبل العالم كما هو، وأن تدرك، وهي لا شك على يقين، أن التضخم لديها سوف يتفاقم مع تزايد العداء بينها وبين روسيا ومن خلفها الصين.
 وهذه الحرب لن تنتهي إلا بميلاد عالم جديد مختلف عن العالم الذي نعرفه بكل تشكيلاته وتجمعاته السياسية، فمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية يتم طيّها الآن بطريقة أو بأخرى، وسيولد عالم مختلف ربما بعد مخاض عسير وطويل.

[email protected]

 

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي وكاتب إماراتي، يشغل منصب المستشار الإعلامي لنائب رئيس مجلس الوزراء في الإمارات. نشر عدداً من المؤلفات في القصة والرواية والتاريخ. وكان عضو اللجنة الدائمة للإعلام العربي في جامعة الدول العربية، وعضو المجموعة العربية والشرق أوسطية لعلوم الفضاء في الولايات المتحدة الأمريكية.

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"