التمجيد والتجميد

00:22 صباحا
قراءة دقيقتين

د. حسن مدن

عند ثنائية التمجيد والتجميد يقف الباحث اللبناني فريدريك معتوق وهو يتناول معالجة طه حسين لقضايا التراث في بحثه مسألة الشعر الجاهلي، في كتابه الشهير الذي أثار زوبعة كبيرة ضده في حينه.
استطاع طه حسين، من وجهة نظر معتوق، أن يكسر الحلقة المفرغة التي تدور في تمجيد كل ما يمت إلى ماضينا دون وضعه موضع المساءلة والشك، بمعايير البحث والعلم اليوم، لا رغبة في الانتقاص منه، كما يرى البعض، وإنما لرؤيته في سياقه التاريخي الملموس، وإن تطلب الأمر خلع هالة التمجيد التي تحيط به. وسواء اتفق المتفقون أو اختلف المختلفون مع أطروحة طه حسين حول انتحال الكثير من الشعر الجاهلي في مراحل تالية للعصر الذي ينسب إليه، فإنه ليس بوسع حتى غلاة المكابرين تجاهل أن الرجل طرح للبحث قضية جديرة بالمعاينة والفحص والتدقيق.
تناول فريدريك معتوق هذه المسألة أتى في كتاب جديد له، عنوانه «إنصاف التراث العربي» صدر عن مركز اللغة العربية في أبوظبي، ويستوقفنا حرص المؤلف وهو يضع عنوان كتابه على اختيار مفردة إنصاف، في تناوله للتراث العربي، والإنصاف هنا ليس قرين الانحياز الأعمى لكل ما في هذا التراث، وإنما تنطبق عليه، في تقديرنا، العبارة التي اختارها رفاعة الطهطهاوي في كتابه الشهير، حين تحدّث عن «تخليص الإبريز في تلخيص باريز».
والإبريز هو الذهب، وإذا كان الطهطهاوي أراد استخلاص الذهب من الحضارة التي رآها في فرنسا حين أتاها في أول بعثة تعليمية أرسلها محمد علي باشا إلى أوروبا، فإن «إنصاف» التراث العربي الذي عناه فريدريك معتوق هو أيضاً «تخليص للإبريز» الذي يحويه هذا التراث، وتجاوز ما ليس كذلك، فبهذا نكون قد أعطينا تراثنا ما يستحقه من تحليل ودراسة، واستخلصنا منه ليس فقط ما هو جدير بالبقاء، وإنما ما هو صالح أيضاً ليكون رافعة للمستقبل.
إن لم نفعل ذلك فسنقع في الوجه الآخر الذي يحذر منه معتوق وهو التجميد، فتمجيد كل شيء في التراث سيؤدي، في النتيجة، إلى تجميد هذا التراث وتعطيل فعل ما هو قمين بالتفعيل به، وهذا، من وجهة نظر الباحث، ما تنبه إليه طه حسين، وهو يتناول قضية الشعر الجاهلي، التي، على أهميتها، ليست سوى عينة مما هو جدير بالتناول في كامل تراثنا بمحطاته التاريخية المختلفة.
هذا ما عناه معتوق حين قال إن طه حسين أدرك «أن أسوأ ما يمكن أن نفعله بأعمال التراث هو تمجيدها»، لأن هذا التمجيد يؤدي إلى تجميدها، ففي حين أن «العلوم الغربية، بما فيها العلوم الأدبية، هي علوم حية فإن علوم التراث العربي هي علوم جامدة».
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب من البحرين من مواليد 1956 عمل في دائرة الثقافية بالشارقة، وهيئة البحرين للثقافة والتراث الوطني. وشغل منصب مدير تحرير عدد من الدوريات الثقافية بينها "الرافد" و"البحرين الثقافية". وأصدر عدة مؤلفات منها: "ترميم الذاكرة" و"خارج السرب" و"الكتابة بحبر أسود".

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"