د.مصطفى الفقي
كنت أفكر دائماً في الدوافع الحقيقية وراء اهتمام الأمير تشارلز ولي عهد المملكة المتحدة بالإسلام والمسلمين، وقد حضرت له أكثر من محاضرة أدركت معها أن ذلك الأمير ينصف الإسلام، ويضعه في مكانه اللائق على الرغم من ضباب الإسلاموفوبيا وضجيج من يخلطون بينه وبين العنف والاستبداد، وقد أتيح لي أن ألتقيه ثلاث مرات؛ الأولى على عشاء في منزل السفير البريطاني بالقاهرة في تسعينات القرن الماضي، ولفت نظري يومها أن السفير قد ألقى كلمة ترحيب ولكن الأمير لم يرد عليه بالمثل، وعرفت بعد ذلك أن البروتوكول البريطاني يجعل التحية الموجهة إلى أفراد العائلة المالكة تأتي من طرف واحد ولا حاجة إلى الرد عليها.
أمّا المرة الثانية فكانت يوم حضوره افتتاح الجامعة البريطانية في مصر عام 2006 والتي شرفت بأن أكون الرئيس المؤسس لها في سنواتها الأول، ويومها سألت الأمير في حضور قرينته كاميلا دوقة كورنوال عن سبب اهتمامه المتزايد بالإسلام ديناً وثقافة فقال لي: «إن الأمر بدأ من خلال اهتمامه بالعمارة الإٍسلامية وشغفه الشديد بالمآذن والقباب وروعة القصور الإسلامية فضلاً عن البهاء الذي يحيط بالمساجد في العالم الإٍسلامي وخارجه»، ودار الحديث بيننا يومها حول الطرز المختلفة في العمارة الغربية والشرقية على السواء، وكيف أن العمارة الإسلامية تحديداً تملك ملامح معينة تركت تأثيرها في مناطق كثيرة من العالم، لعل أبرزها جنوب إسبانيا؛ حيث الطراز الأندلسي الإسلامي لا يزال مؤثراً حتى اليوم. وكانت المرة الثالثة التي ألتقي فيها مع الأمير مجدداً في زيارته الأخيرة لمصر في نوفمبر/ تشرين الثاني2021؛ حيث اختتم زيارته لمصر هو وقرينته بقضاء وقتٍ خاص، متفقداً مكتبة الإسكندرية التي كنت أشرف بإدارتها، وكان الأمير يومها مبهوراً بما تنتج المكتبة من أعمال وما تطبع من كتب وما بها من متاحف للآثار والمخطوطات، والعناية بالفنون التي جعلت أوركسترا المكتبة تعزف أرقى المعزوفات الغربية طوال جولة الأمير. وقد وقف طويلاً أمام الكسوة التاريخية للكعبة المشرفة التي أهداها يشار حلمي هي والمحمل النبوي الشريف للمكتبة ضمن إهداءاته للعديد من المؤسسات الثقافية الكبرى، ولقد صمم الأمير على أن يلتقي بأكبر عددٍ ممكن من العاملين والعاملات بالمكتبة في باحة المبنى أو ما نطلق عليه (البلازا)، وقد أصابتني دهشة شديدة حينما قال لي: «إنني أتذكرك منذ احتفال افتتاح الجامعة البريطانية منذ خمسة عشر عاماً»، وأشار إلى تجربة التعايش المشترك تاريخياً في مصر بين المسلمين والمسيحيين واليهود، كما تذكر محاضرته في الأزهر الشريف منذ سنوات وتذكرت معه الداعية الإسلامي المصري الراحل د.زكي بدوي الذي كان مقيماً في بريطانيا، وكان مستنيراً ومتفتحاً يبهر الناس بالصورة الحقيقية للإسلام ومواقفه من العلم والحداثة والمرأة، وكان، رحمه الله، يتصل بالأمير تشارلز في مناسبات مختلفة، ويجيب عن تساؤلاته حول القضايا التي تمس الإسلام وتقترب منه، ولقد أدركت من لقاءاتي بالأمير تشارلز- الذي يشترك معي في يوم الميلاد- أن الذين يعرفون حقيقة الإسلام يحترمون ذلك الدين الحنيف ولا يتطاولون عليه، أما أولئك الذين لا يعرفون الحقيقة ويتناولون الإسلام من خلال مصادر مغرضة أو على الأقل غير بريئة تفتقر إلى المعرفة الواضحة بفلسفة ذلك الدين وارتباطه بالحياة.
ويهمني أن أشير هنا إلى أن هناك من يتحدثون عن الإسلام بأسلوب إيجابي معاصر، فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين يتحدث بتوقير واحترام عن الدين الإسلامي. كما أن عدداً من رؤساء الولايات المتحدة قد نظروا دائماً إلى الإسلام وكتابه المقدس، القرآن الكريم نظرة احترام وانبهار، ووقفوا أمام ترجمته بدهشة وامتنان. ولا يخفى على أحد أن بابا العالم الكاثوليكي حالياً خورخي فرنسيس يتحدث عن الإسلام دائماً بكل اهتمام وتقدير خلافاً لسلفه البابا بندكيت السادس عشر الذي كان لاهوتياً مغرقاً في الدراسات النظرية يرى الإسلام من خلال كتابات أعدائه في العصور الوسطى؛ لذلك فإنني ممن يظنون أن الشخصيات الكبرى في التاريخ والذين نعدهم قادة للرأي العام العالمي عندما يتحدثون بإيجابية عن الإسلام فإنهم يمثلون حائط صد قوي أمام دعاة الإسلاموفوبيا وأعداء التحالف الديني بين أهل الكتاب.. تحية للأمير البريطاني الذي قد يرث العرش بعد والدته الملكة إليزابيث التي جلست عليه ثلاثة أرباع قرن حتى الآن.